في الوقت الذي يشتغل العالم كلّه بالحرب على غزة وما جرّته من أزمات مدمّرة على ساكني القطاع، وتدهور الحالة الاجتماعية والنفسية لسكّانه بشكل كبير، يظهر أمام الشاشات والقنوات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليُعلن لهذا العالم أنه مستعدّ لإعادة العلاقات بين بلاده وسوريا.
فوزي بن يونس بن حديد
يأتي هذا الإعلان بعد الضجّة العالمية التي أحدثها أردوغان إبّان الأحداث التي حدثت في سوريا مطلع السنة 2011م، و قد ذكر آنذاك أن الرئيس السوري بشار الأسد مجرم يقتل شعبه ولا يمكن له أن يعقد معه صفقات أو أن تصافح يده يد الدكتور بشار الأسد، واستطاع أن يقنع مليار مسلم أو حاول إقناعهم بأنه على حقّ حينما هاجم الرئيس السوري بشدّة وتدخل في شؤون بلاده وهاجم المدن السورية على الحدود بعنف لإقامة منطقة عازلة تحمي تركيا من تدفّق المسلحين إلى بلاده.
صدّق المسلمون ما فعله أردوغان، واعتبروا الرئيس السوري مُجرم حرب لأنه يقتل شعبه بالبراميل المتفجرة، وشجّعوا أردوغان على مواصلة الحرب ضد سوريا لمساعدة الشعب السوري في التخلص من نظام الأسد البطشوي، وروّج بشدّة لعنف هذا النظام وما يمارسه من تنكيل وتعذيب في حق المطالبين برحيله بعد اشتعال الشرارة الأولى
للثورة في مدينة دوما السورية، وظلوا طوال أكثر من اثني عشر سنة يعزفون على أوتار هذه الأغنية حتى تم تدمير كل ما تبقى منها من حضارات وعمران في مشاهد مأساوية سيذكرها التاريخ، وسمحت تركيا بعبور جمع كبير من المسلحين الذين تدفقوا على الحدود التركية السورية بالآلاف ليدخلوا المدن السورية ويفعلوا الأفاعيل.
تصحيح المسار والتعويض عما جرى
واليوم وبعد هذه السنوات الطوال، يُرخي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سدوله وجميع ستائره ليعبر عن استعداده للقاء الأسد ومصافحته وإعادة العلاقات بين سوريا وتركيا إلى ما كانت عليه في الوقت الذي كان يرفض أردوغان من قبلُ بشدة أن يحصل هذا حتى ولو في الحلم، لكن ما الضريبة التي سيدفعها أردوغان للأسد حتى يوافق
الأخير على مد يده للرئيس التركي دون أي مطالبة بتصحيح المسار والتعويض عما جرى ويجري في بلاده وبدعم تركي خالص.
أعتقد بأن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تركيا اليوم هي الدافع الأساس التي جعلت أردوغان يطرح مثل هذا الطرح الغريب، بعد أن كان يرفض رفضا قاطعا في السنوات الماضية أي تحرك من الوسطاء أو من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإعادة الدفء للعلاقات التركية السورية، ولكنه اليوم وبعد أن ذاق شعبه مرارة التراجع الاقتصادي وارتفاع التضخم والبطالة، وانهيار العملة التركية وارتفاع الضرائب، أدرك الرئيس التركي أن الوقت قد حان لحلحلة الملف السوري أملًا في إعادة الحركة الاقتصادية بين البلدين الجارين، حيث كانت قوافل التجار تجوب المدن في كلا المنطقتين بكل حرية وتزدهر التجارة والصناعة ويستفيد الطرفان من المعاهدات والاتفاقيات التي وُقّعت بينهما في إطار
من الاحترام المتبادل، وقطعًا لمحاولات المعارضة التركية السير في هذا المسار الذي قد يقلب نتيجة الانتخابات في المستقبل.
لقد اشتاق أردوغان إلى المشهد الحميمي بين البلدين، وهو يلاقي الدكتور بشار الأسد في مطار دمشق، أو العكس حينما يزور الأسد أنقرة وإسطنبول، ولكن بعدما توقف المشهد وانقطع الحبل بينهما، أصبحت تركيا بلا صديق مقرّب وكأنها قد فقدت أحد جناحيها المهمّين، وبالتالي أصبحت عاجزة على الطيران كلما مرّ عليها جزء من الزمان بعد أن
تقدمت السنون والأيام والشهور، وبعد أن أحرق الخصام والهجران والعداء كل تعاون اقتصادي بين شعبي البلدين اللذين كانا ينعمان بروح الجيرة وكأنهما شعب واحد، فلا عوائق على الحدود ولا ضرائب على البضائع ولا خوف بين القوافل التجارية، ولكن اليوم وبعد حرمان تركيا من هذه المزايا اشتاقت مرة أخرى إلى إحياء هذه الذكريات.
المصالح قبل المبادىء و القوة قبل القيم
فأردوغان السياسي يبحث اليوم عن مصالحه الشخصية ومصالح حزبه ومصالح بلاده أكثر مما يؤمن به من مبادئ، وشعبه تذمّر كثيرا من هذه السياسة طوال أكثر من عقد من الزمان حينما تصدر المجالس الإعلامية في الحرب على سوريا، لكن الغريب أنه انطفأ اليوم في الحرب على غزة وكأن الأمر لا يعنيه تماما مما يضع علامات استفهام كبيرة على مستقبله السياسي وتاريخه النضالي ضد الأنظمة الفاشية والنازية والهمجية التي تدمر البلدان العربية والإسلامية بلدا بلدا وتفكك المنظومة الاقتصادية لكل بلاد تصعد على السُّلم، أو تحاول الصعود، لأن العالم اليوم ينظر للأقوى وليس للقِيم، فحاد عن منظومته الإنسانية التي طالما كان يفخر باتباعها وبالتالي نقول سقط القناع وتعرّى وفُضح كل ما كان مخبأ عن العيون.
فهل ستعود العلاقات التركية السورية إلى عهدها الأول وة هل ستتحقق واقعا ويزور أردوغان دمشق طالبًا الصفح والعفو عما بدر منه من أخطاء جسيمة على كل المستويات ؟ وهل سيغفر له الأسد؟ وهل سيطالب النظام السوري تركيا بتعويضات ضخمة عن كل ما قامت به إبان الحرب عليها، أم أن دفء العلاقات من جديد قد غطى على كل مطالبة وأخفى الجرح الأليم.