لا مقارنة ممكنة لحفل افتتاح الألعاب الأولمبية بباريس يوم 26 جويلية 2024 مع سابقاته، فلقد انتظم هذه السنة في قلب المدينة وعلى نهر “السّان”، ولعل الفكرة مستوحاة من ألعاب سيول سنة 1988 وبداية مراسم الأولمبياد خارج الملعب حيث قادت سفينة على شكل “تنين” أسطولا من الزوارق على نهر “هان” الهادئ.
العقيد محسن بن عيسى
ردود فعل كثيرة سُجلت حول هذا الحفل الممطر، فهناك من أعجبه وأثنى على مُعدّيه تنظيميا وفنيا، وهناك من انتقده بذوق وآخرون استنكروه بشدة. المشكلة أنّ هناك شعور لدى المتتبعين بتلوّث الروح الأولمبية من إيحاءات بعض اللوحات الراقصة المعروضة.
إيقاعات شيطانية
صحيح أنّ للغرب تراثا في مذهب الالحاد والإباحية والشذوذ، ولكن المتعارف عليه هو ابقاء هذا الانحراف في أضيق الحدود والأبعاد وليس عرضه كوجه من أوجه الحريات. لقد أخرجت بعض اللوحات حفل الافتتاح عن مفهوم “الأولمبياد” الذي يعود لسنة 779 ق م، ونالت من مبادئ الرياضة والتربية والثقافة التي هي في خدمة الانسانية.
لقد انخرطت البلدان العربية في الأولمبياد 1912 عن طريق مصر، ثم سوريا ولبنان والعراق منذ نهاية الأربعينات، وبعد ذلك السودان وتونس والمغرب منذ دورة روما سنة 1960 وتلتها بعد ذلك دول الخليج. ويمكننا على ضوء ذلك أن نؤرخ من أولمبياد فرنسا بزوغ عصر “الانحلال المعاصر” أو “انحطاط أوروبا”. فلقد سوّق الحفل للمثلية وعبدة الشيطان بشكل صريح وحرّض على الاستهزاء بالأديان دون لُبس.
لن أناقش هنا هذه القضايا فهذا ليس هدفنا، ولكن أيّ رسالة أراد مهندسوا الاستعراض إبلاغها لشعوب العالم عبر الايحاءات “الساخرة من الدين”؟
لا يخفى على أي ذي عقل مدى التأثير السلبي لهذه الرسائل. فالملحدون لا زالوا يصرون على ان الأديان أصبحت خطرا يهدد الحضارة والإنسانية، وأنه لا خلاص للجنس البشري ولا نجاة من هذا المصير الأليم والهلاك الوشيك إلا بالتخلص منها. هكذا أصبح للإلحاد في الغرب وجود شعبي وروّاد وقاعدة عريضة، وهكذا أصبحت نسبه في ازدياد من سنة إلى أخرى.
ثمّ أي منهجية شيطانية اعتمدها فنانوا الحفل لربط رسم ليناردو دافنشي “العشاء الأخير” بنماذج من الجنسية العارمة التي تجتاح الغرب؟ والتي أصبح بسببها الانفلات بديلا عن الانضباط والشذوذ بديلا عن الاستقامة، والتجاهر بما ينافي الحياء بديلا عن التستر، والدعارة بديلا عن الطهارة، والعهر بديلا عن العفة.
لقد أرادوا أن يعيش العالم الحاضر دون اكتراث أو مبالاة بالماضي والمستقبل وأن يدفعوا بالجميع نحو حياة لا تنضبط بالقيم والأخلاق.
هذا حفل وان تعرّض لفقرات تاريخية وثقافية لفرنسا وحضره شخصيات ونجوم مرموقة فهو حفل تقديم “دين الغرب الجديد” الذي سيفجر مزيدا من الرغبات والشهوات في سياقات مفتوحة وشاذة.
انحراف المدنيّة
القيم الأخلاقية اليوم على درجات في سلّم الحضارة، والاختلاف في تقييم مضامينها يتفاوت باختلاف التاريخ والدين. والانحراف بها ليس في طبيعة الأمم بحسب أقاليمها، ولكن يتبع المنزلة التي وصلتها المدنيّة ونوعها. ولا شك أنّ المدنية الغربية تسير نحو الهاوية.
نحن لسنا ضدّ الغرب عامة كشعب وكمستوى علمي وثقافي وتكنولوجي. ولكن على اختلاف معه في المفاهيم التي تتعلق بالعقيدة او المفاهيم الفكرية أو المناهج الثقافية أو حدود الحريات. لقد هجر الغرب فكرة ارتباط الأخلاق بالدين، ولكنه لم ينجح في إحلال شيء ثابت محله، في حين لا زلنا نؤسس الأخلاق على الدين.
نحن لا ننكر أنّ فرنسا عرفت عصر الأنوار طوال القرن الثامن عشر وقبل الثورة الفرنسية سنة 1789 وامتداداتها إلى أفق احترام حقوق المواطن. لقد قاد فلاسفة التنوير فرنسا وأوروبا كلها إلى منعطف إنساني جديد وتحرر عقلي عميق. وتأسست أول لجنة أولمبية حديثة بها على يد البارون دي كوبرتان على إثر انعقاد مؤتمر دولي بجامعة السوربون. ولكن إعلان حقوق الإنسان تم توظيفه وتطبيقه بشكل انتقائي منذ فرنسا الكولونيالية، وتدخلت السياسة في الأولمبياد منذ دورة مونتريال سنة 1976. طبيعي أن تطرح مواكبة العصر بمجرياته إشكالية “المثاقفة” أي الجوانب المادية والمعنوية التي يمكن أن نتفاعل معها في ثقافة الآخر لأحافظ على الجوانب المكونة للشخصية الوطنية وعلاقتها بمجتمعها وثقافتها.
قد يسمح القانون الفرنسي بهذا التسيّب ولكن من المؤكد ان جوهر فلسفة الحريات يختلف معه. هناك طرح خاطئ لتبرير ما جرى باسم الدولة العلمانية، فالعلمانية لا تتعارض في الأصل على المستوى الشخصي مع الإيمان الديني أو التدين.
ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.