خُصّصت سهرة الأربعاء 31 جويلة لرابع الفنون ضمن برمجة الدورة الثامنة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي من خلال عرض “بيغ بوسة” نص وإخراج وتمثيل وجيهة الجندوبي، وهي مونودراما أقبل عليها جمهورا غفيرا ملأ المدارج والكراسي الأمامية، جمهور جاء ليستدلّ على الواقع الاجتماعي والسياسي التونسي الذي تغيّرت ملامحه منذ ثورة 2011 ذاك الواقع الذي رسمته “مدام جليلة” بشكل كاريكاتوري من خلال تقمّصها لعديد الشخصيات وتجسيدها بروح كوميديّة وحرفيّة عالية في الأداء…
وحيدة على الركح الكبير وتحت أنظار الآلاف وقفت وجيهة ببيغ بوسة لتقدّم عرضا أُعتُبر من أصعب الأشكال المسرحية باعتبار أن فنان المونودراما لا بدّ أن يمتلك أدواته جيّدا ويحسن استخدامها: كلام، إشارة، صمت، حركة الجسد، والانفعال الداخلي…باختصار هو مُلزم بملأ المسرح/فضاء اللعب وشدّ الجمهور.
اختبار صعب اجتازته وجيهة الجندوبي بامتياز وشدّت جمهورا لم يغادر أماكنه إلا بعد مغادرتها الركح…
“بيغ بوسة” عرض تغوص به وجيهة في قمّة العبث، العبث الذي يُمكن أن يحوّل موظفة عادية بأحد الصناديق الاجتماعية لا شأن لها بالسياسة إلى وزيرة ويتمّ إعلامها بإرسالية قصيرة تصلها على هاتفها في ساعات الليل الأخيرة.
“مدام جليلة” تستعد لوضع برنامج وزاري لمنحها الثقة، ولتدخل في ثوب الوزيرة كان المنطق يقتضي أن تُحدث تغييرا جذريّا على نمط حياتها انطلاقا من شكلها وصولا إلى محيطها بمن فيهم زوجها “عبد الجليل”. في أثناء تقديمها لمبرّرات التغيير ترسم الممثّلة بالحركة والصوت شخوصا بعضها حقيقيّة وأخرى متخيّلة وتتنقّل بالجمهور بين مستويات مكانية عديدة كالسوق والحمام وحلاقة الحيّ وحفلات الأعراس ومواكب العزاء في سياق تدرّجها السردي الذي اتخذ منحى كوميدي حمل في طيّاته الكثير من النقد لسلوك بعض الأفراد، واقع تعتزم وزيرة المستقبل تغييره لصالحها ليحقّق لها تلك النقلة النوعيّة التي تخدم مصلحتها كفرد ولا تنعكس على المجموعة.
استحضرت وجيهة الجندوبي في عرض “بيغ بوسة” أكثر من عشر شخصيات نساء ورجال وحتّى أطفال، تدخل في أثوابهم وتخرج منها بسلاسة مطلقة وكانت قادرة على خلق الصراع الذي ينتجه الحوار التبادلي بينها وبين الشخوص المتخيّلة بأصوات وحركات مختلفة لترسم العلاقة القائمة بين الشخصيّة المحورية كوزيرة والمحيطين بها.
ساعتان على الخشبة بإيقاع متسارع وصور متعاقبة وشخصيات تلتقي في هويّتها وتتباعد في مستوياتها الاجتماعية والفكرية، رسمت وجيهة الجندوبي في إطار كوميدي بحت ملامح مجتمع تغلغلت السياسة في تفاصيل حياته اليوميّة بعد الثورة وهو ما أكّدت عليه وجيهة الجندوبي منذ المشهد الأول الذي حملنا مباشرة إلى يوم 14 جانفي حيث بدأت الأحداث تتسارع في ظرف زمني قصير لتقول لنا نحن الآن وهنا نحبّ البلاد ونرفع علمها عاليا، وإن كنّا في حياتنا اليوميّة نعيش حياة بسيطة ولا نهتم بما يحدث في كواليس السياسيين إلا أننا نرفض المسؤول الذي يتعامل بالمحسوبية ويخدم مصالحه على حساب الشعب… وتلك هي الرسالة التي بنت عليها وجيهة الجندوبي حكايتها “بيغ بوسة” فهي كفنانة مسرحية أخذت مادتها/نصها من الحياة اليومية ووضعتها بأمراضها وانفصامها وأنانيتها وسذاجتها على خشبة تبحث عن مخلّص، والمخلص لن يكون وزيرة تم تعيينها بإرسالية قصيرة…
ولذلك تستفيق “مدام جليلة” من تلك الدوامة على ارسالية جديدة على هاتفها يعتذر فيها المرسل عن خطأ لغوي ورد في النص.
أشياء كثيرة تغيّرت في مونودراما “بيغ بوسة” على امتداد خمس سنوات، فهو عرض متحرّك تتّجه بوصلته وفق المتغيّرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلاد مع امكانية الإشارة لما يحدث في العالم كالعدوان على غزة وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون منذ عشرة شهور أمام صمت الشعوب العربية وهو ما عبّرت عنه وجيهة الجندوبي من خلال بثّ أغان ثورية وتصدّر العلم الفلسطيني الشاشات الثلاث فوق الركح.
بقي أن نشير أن التغيير لم يحدث في “بيغ بوسة” على مستوى النصّ فقط وإنما كذلك على شكله حيث استضافت وجيهة الجندوبي في عرض الأربعاء 31 جويلية فنان الراب أرماستا وأدت معه أغنية أخذت بدورها طابعا كوميديا لم يشذّ عن السياق الدرامي.