هذه محاولة لإشراك القارئ الكريم في الملاحظة والاستقراء حول تبدّل البنية الذهنيّة للفرد التونسي، وردّة فعله على البيئة المحيطة به، بجميع مكوّناتها.
رضا بن سلامة
من المؤكّد أنّ المجتمعات والحضارات تندحر لأسباب غالبا ما تكون كامنة في داخلها. وهو استنتاج يستحق التأمّل، إذا كان لمجتمعنا أن يتقدّم إلى الأفضل. ومن بين المراجع الهامّة في هذا الشأن التفسير الخلدوني لحركة المجتمعات وأهمّ الظواهر الاجتماعية التي تحكم المجتمع وتؤطِّره. فالعلاّمة عبد الرحمن بن خلدون، بتميّزه الفكري ومقامه العلمي الرفيع المستوى، يقسّم المجتمعات إلى نوعين:
المجتمعات الحيوانية : وهي “حالة التوحّش البدائية، القريبة من أسلوب حياة الحيوانات”، وفي تصوّر ابن خلدون كانت هذه الحالة منذ القدم من نصيب جميع بني البشر.
المجتمعات الإنسانية : وهي تنشأ وتتطوّر نتيجة مجموعة من الظروف والأسباب التي تجعل الإنسان في حاجة إلى أبناء جنسه، لضرورة اقتصادية ودفاعية تحفظ أمنه واستقراره.
القواعد المنظّمة للحياة في المجتمع
إلا أنّ هذه المجتمعات الإنسانية على تطوّرها قد يُصيبها التراجع لمنظومتها الاجتماعية، فتتدحرج نحو نمط يقترب أكثر إلى المجتمعات الحيوانية، إذا هي لم تتدارك أمرها في الإبّان. ويقول ابن خلدون: “القياس والمُحاكاة للإنسان طبيعة معروفة ومن الغلط غير مأمونة تُخرجه مع الذهول والغفلة عن قصده وتعوج به عن مرامه فربّما يسمع السامع كثيرا عن أخبار الماضين ولا يتفطّن لما وقع من تغيّر الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينهما كثيرا فيقع في مهواة من الغلط “.
ولا أعتقد أن الجميع لا يتفق على ضرورة تمسّك أي مجتمع انساني بالقيم البديهية المُعترف بها، بمعنى المبدأ والأصل للعيش المشترك. وهي قواعد السلوك الثابتة التي تنطلق من صورة الانسان الباطنة لصورته الظاهرة، منها ما هو حسن مقبول، ومنها ما هو سيء مرفوض تماما. هذه الصفات النفسية التي يتّصف بها سلوك الإنسان، هي مجموعة المبادئ والقواعد المنظّمة لحياته في المجتمع وتحديد علاقته بغيره.
ما نلاحظه اليوم في المرافق العمومية وفي الطرقات وغيرها من المواقع… لا يمكن إلا أن يُمثّل خللًا قيميًا يتفاقم يوما بعد يوم، بل تدهورًا في سلوك عدد مُتزايد من أفراد المجتمع، كبارًا وصغارًا. ويعود ذلك إلى سوء التربية الأُسريّة، وضعف السلوك الإيجابي والسَوي في التعامل بين أفراد المجتمع في جميع الميادين، وتفكّك عُرى التكافل والتضامن الاجتماعي، وانتشار الأنانية والحقد والكراهية، والجهل ونقص المعرفة الصائبة بالحقوق والواجبات… وأسباب ذلك كثيرة، وعلى علماء الاجتماع والسياسيين المثقفين الغوص في البحث فيها لعلّنا نتداركها.
كلمات أصبحت “”شعار المرحلة”
ولاختصار جانب مما يحدث في هذه الحقبة في تونس -والتي لا جدوى من نعتها-، وتحت تأثير تراكمات في سوء إدارة الشأن العام من قبل المُخفقين الذين ابتُلينا بهم، يمكن اقتضاب توصيف حالة الوضع بهذا العبارات المتداولة باستمرار وفي كل الحالات: “وسّع بالك… بالك وسّع” !
تتردّد هذه القولة “وسّع بالك” مرارا وتكرار في اليوم الواحد وفي العديد من الحالات، وعلى مخرج مُختلف للكلمات بأسلوب مُتراخ مُترنّح غير مبال بجسامة ما يتم اقترافه، أو في شكل أمر زجري لا يقبل المُمانعة للعمل به فورا. هي قولة حق يُراد بها باطل. فالسيطرة على الأعصاب أمر ضروري، وتخزين الغضب داخل النفس في كل مرّة يتعرّض فيها الشخص لمواقف مُزعجة يدل على قُدرة في كبح جماح الغيظ أمام تصرّفات أقلّ ما يقال عنها أنها همجيّة.
“وسّع بالك” تُطلق نحوك إذا تجاسرت على إبداء ذهولك عندما يجتاز سائق مُتهوّر الضوء الأحمر عند مفترق طرق، وكأنّه سيارة اسعاف غير مُكترث بما قد يحدث، أو يتجاوز على يمينك في مُنعطف، أو يغفل عن وضع الإشارة الضوئية للالتفاف يمينا أو شمالا فيفاجئك ويمضي لا يلوي على شيء، أو يكاد يصدمك بسرعة جنونية وأنت تشقُّ الطريق مترجّلا على الممرّ المخصص للمُشاة، فتقفز إلى الرصيف هاربا بجلدك.
أما “بالك وسّع” فتعني وجوب فتح الطريق حالاّ لركب لا يملك فرامل وقد يصدمك إذا لم تمتثل في الحين، وهكذا يُسلّط عليك التعسف السافر من صاحب أدنى نفوذ إلى أعلاه، فتتعالى المقولة “بالك وسّع” بدون انقطاع وبصوت مزعج، إنذارٌ بأنّ الضرورة القصوى تقتضي فسح المجال للصاروخ الأرضي الذي يُهدّد باكتساحك إذا لم تتنحّى عن مساره المُدبّر. هذه أمثلة مُقتضبة لدفق هائل من الوضعيات التي تُفرض علينا وتتطلّب تناولها بتفاصيلها واقتراح حلول لعلاج مجتمعنا.
وهي كلمات أصبحت “”شعار المرحلة” وخبزنا اليومي لتواتر استعمالها بقصد صدّ أيّ استنكار لتصرّف غير مقبول يفتح الباب على مصراعيه للفوضى، ويتنافى مع المبدأ الأساسي في العيش المشترك وهو “ألاّ تفعل بغيرك ما لا تُحب أن يُفعل بك”. فإذا لم تقدر على “”توسيع بالك” بالقدر المطلوب يُرسل إليك تحذير لا يقبل التفاوض: ” يا جبل وسلات وسّع بالك اللي جرى للحامّة يجرى لك”… تذكير للمُطّلع على التاريخ بأحداث عام 1729 حينما قرّر أعيان جبل ﻭﺳﻼﺕ الانضمام إلى علي باي ضدّ عمّه حسين بن علي، فيما سميت بثورة جبل وسلات… وجاء الحسينيون وحاصروا جبل وسلات واقترفوا مذبحة من أفظع المذابح…
فإذا لم نُصلح من حالنا، فنحن ماضون نحو التفكّك. لأن المجتمعات لا تنهار إلا إذا تجاهلت أصوات نواقيس الخطر. غير أن الانهيار ليس أمرا حتميا، فقد لا يزال أمامنا المجال لنأخذ العبرة ونُنقذ أنفسنا من لعنة “وسّع بالك… بالك وسّع”…
باحث جامعي و كاتب.