من الثابت أن دخول القضاء التونسي في أتون السياسة مكرها أو راغبا في قليل من الأحيان (و ذلك بداية من حكم الإسلاميين) قد أفقده كثيرا من هيبته و احترامه من المجتمع بعد أن تحول إلى طرف صراع و خصم في الوقت الذي كان يجب عليه فيه أن يبتعد عن هذا الجحيم تمام الابتعاد.
بقلم أحمد الحباسي
العدل أساس العمران، من ولّى القضاء فقد قتل بغير سيف. لعلّ المقولتان تلخصان باختزال شديد مهمة القضاء و نبله و دوره في إشاعة الطمأنينة و الاقتناع بين المتقاضين و لذلك فقد أحدثت الأحكام القضائية الصادرة أخيرا في تونس و في هذه الفترة الانتخابية بالذات ضد بعض السياسيين و المدونين و الإعلاميين كثيرا من الإحباط و الرفض و التململ و اللغط في صفوف المعارضة.
التساؤلات تخص أولا سرعة الأبحاث و الإحالات و ثانيا جسامة المدة السجنية المحكوم بها و ثالثا لأن الجميع و بالذات المحكوم عليهم باتوا يعتبرونها أحكاما مجحفة في حقهم و غير مؤسسة على ارتكابهم أفعال إجرامية فعلية و ثابتة تستدعي صدورها بمثل هذا المضمون الذي يضر بحقوقهم و بالذات الأطراف التي كانت تعول ممارسة حقها في تقديم ترشحها للانتخابات الرئاسية المقبلة و بحقوق عائلاتهم التي باتت تتكبد مشقة كبيرة سواء على مستوى مصاريف المحامين أو ما يتطلبه التنقل الأسبوعي لسجن الإيقاف من مصاريف إضافة طبعا للارتباك و الخوف الذي يرافق تلك العائلات و الذي يجعلها تتساءل عن المصير الغامض للموقوفين المحكوم عليهم.
جرت الرياح بما لم تشته السفن
لا شكّ أن من أكبر التحديّات التي كانت محل رهان بعد وقوع أحداث الثورة هو استقلالية القضاء نهائيا عن السلطة و تمتعه بكافة الأسباب التي تجعل منه ملاذا حصينا للمتقاضي و كان هناك اعتقاد لدى الكثيرين من أن ترسيخ قضاء عادل غير خاضع لضغوط و تدخلات السلطة هو دليل ملموس على نجاح الثورة و لبنة أولى فى تكريس دولة القانون و المؤسسات لكن جرت الرياح بما لم تشته السفن بحيث سارعت حركة النهضة – الحزب الفائز في انتخابات – 2011 إلى الهيمنة على القضاء بحيث طوّعته لتنفيذ مآربها و أغراضها و تشفّيها في خصومها و من بين الملاف الشهيرة التي تدل على هذا المنحى ما يصفه البعض بعملية “اغتيال” الدكتور الجيلانى الدبوسي و التي اتهم فيها وزير العدل السابق نورالدين البحيري وجعلته محل تحقيق و مساءلة بتهمة القتل العمد مع سابقية القصد.
لقد أصبح هناك اتهام مباشر للقضاء و أحيانا من قضاة سابقين مثل القاضيين أحمد صواب و كلثوم كنّو بكونه قضاء مخترق سياسيا و خاضع لضغوط و توجيهات و طلبات السلطة القائمة و أن الأحكام التي تصدر عنه “مضروبة” و لا تمثل العدالة و قيم نصرة العدل في أسمى مظاهره.
لم يسبق للقضاء التونسي أن عاش حالة الإرباك و الارتباك و التشويش التي يعيشها اليوم بسبب الضغوط السياسية التي جعلته يفقد توازنه و تتزعزع ثقة المتقاضين فيه و باتت وتيرة هذه التدخلات تتصاعد و تتسارع بشكل غير مسبوق لخدمة أغراض سياسية باتت مكشوفة من بينها إسكات أصوات معينة و التخلص من رموز سياسية مزعجة و خلق مناخ من الخوف بإمكانه لجم حرية التعبير و إفساح المجال لتنفيذ مشروع سياسي معين وهي أمور لم تعد خافية على المتابعين بل أن عديد الأطراف السياسية ترى أن غاية إصدار المرسوم عدد 54 لسنة 2022 هي تحقيق هذه الأهداف باستخدام القضاء و تحميله وزر القيام بحملة “تنظيف” شاملة لكل من يقف ضد مسار سياسي معين ليس محل إجماع بدليل النسبة المتدنية للمشاركة الشعبية في الاستفتاء على الدستور و انتخابات مجلس النواب وانتخاب مجلس الجهات و الأقاليم.
لا يمكن فصل الاتهامات الجزافية و العنيفة التي تطلقها السلطة ضد الجميع عن جسامة الأحكام الصادرة ضد كل من حمل القلم أو أباح اللسان لتسجيل موقف معارض بما يؤكد للمتابعين أن هناك قضاء على المقاس و قضاء بمختلف السرعات و قضاء تعليمات مثلما أكدته نقابة القضاة حين تحدثت عن وجود خلل و فساد في منظومة القضاء نتيجة تدخلات سياسية.
حالة الضيم و الاحتقان يشعر بها القضاة أنفسهم
يؤكد الملاحظون أن التدخل السياسي في التشكيلات القضائية و التعيينات و النقل يتعارض مع استقلالية القضاء عن السلطة و حياده و يجعله رهينة لكافة التدخلات بهدف إخضاعه و التدخل في قضائه بما يتلاءم مع مصالح الجهة المتدخلة لكن هناك من يذهب إلى القول و الاعتقاد أن الأحكام القضائية الأخيرة لم تكن نتيجة ضغوط سياسية معينة بل هي نتاج لحالة الضيم و الاحتقان التي يشعر بها القضاة أنفسهم نتيجة عدم تفاعل عديد السياسيين و الإعلاميين بالذات مع ما تعرضوا له من نقل تعسفية و خذلان السلطة لمطالبهم المتعلقة باستقلالية القضاء و عدم المس بالمجلس الأعلى للقضاء و المطالبة بتركيز المحكمة الدستورية و تحسين وضعية القضاء و عدم نقلهم إلا بطلب منهم بحيث استغل بعض القضاة حالة التخبط و الشك التي وقع فيها بعض المحللين الذين اكتفوا بتوجيه أصابع الاتهام للسلطة و رأوا تحميلها تلك المسؤولية رافعين عن أنفسهم مثل هذه الاتهامات المرتبكة التي تمسّ من استقلاليتهم و هيبتهم و مهنيتهم.
من الثابت أن دخول القضاء التونسي في أتون السياسة مكرها أو راغبا في قليل من الأحيان قد أفقده كثيرا من هيبته و احترامه من المجتمع بعد أن تحول إلى طرف صراع و خصم في الوقت الذي كان يجب عليه فيه أن يبتعد عن هذا الجحيم تمام الابتعاد و من المؤكد أيضا و بما لا يدع مجالا للشك أن ما صدر من أحكام قضائية ضد سياسيين و إعلاميين و مبدعين لم يكن متناسقا مع ضرورة الابتعاد عن التشفي و الخضوع غير المرغوب فيه للضغوط السياسية و على الجسم القضائي أن يدرك مرة أخرى خطورة المرحلة و أن يعمل و يكون طرفا فاعلا في ترسيخ دعائم الديمقراطية الوليدة كما أنه على السلطة القائمة أن تتذكر دائما أن تسليط الضغوط على القضاء ليس مستحبّا بل يؤسس إلى دولة الخراب و يساعد على انتشار الفساد و التسلط و رفض السلطة القائمة نفسها لأن العدل أساس الملك في كل زمان و حين و تعزيز الديمقراطية في مرحلتها الانتقالية يمكن الجميع من إيجاد أرضية مناسبة لإقامة حوار بناء من شأنه حلّ الأزمات و معالجة الثغرات.
كاتب و ناشط سياسي.