هل التونسيون أكثر شتاتا من أن يتّحدوا ؟

التونسي لم يسقط الدولة خلال قرون عدة من تاريخه الاحتجاجي، على الرغم من عمق الهزات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها البلاد، وإنما اكتفى في الأغلب بإسقاط الأنظمة. وعلى هذا المعنى يرى بعض المؤرخين أنه من نتائج “قدم الدولة” في تونس وبسط هيمنتها على أهم أجزاء البلاد أن دعّمت “الوعي الجماعي” لدى السكان.

العقيد محسن بن عيسى

إنّ حسابات الأوطان ليست حسابات أحزاب ونقابات أو هيئات أو حتى شخصيات، ومقومات التوحيد أكثر بكثير من مواطن التفرقة.

إنّ العلاقة بين الشعب والوعي الوطني أو “الهوية الوطنية” هي صلة متبادلة ومتتامّة وليست اشتقاقا من جانب واحد. ولئن اعترت هذه المقومات تشوّهات عبر تسطيح الذاكرة وتحويل الماضي الى مستودع للهزيمة والتخلف والكراهية، فلهذا الشعب أمجاد تاريخية شكلت الأساس المتين الذي وحّد صفوفه أمام محاولات التفكيك وأخرجه من العزلة وخلصه من براثن الاستعمار.

مركزية الدولة

يبدو وأنّ الكيان التونسي الوطني استكمل مركزيّته على امتداد “القرن السادس عشر الى التاسع عشر”، وأن دوره كان فاعلا في تشكّل الكيان السياسي والبشري لما كان يسمى “إيالة تونس”. كانت أولى التحديات إخضاع القبائل والسيطرة عليها والتي لم تتحقق بشكل فعلي إلا ابتداءً من 1630 تقريبا. لقد اكتفت دولة البايليك بداية بسيادة فعلية على المدن وأحوازها، فيما أبقت الأرياف خاضعة للقبائل الكبرى التي واصلت جباية الضرائب لفائدتها داخل مجال سيطرتها.

كان هناك صراع بين نمطين اجتماعيين وسياسيين متباينين: نمط يعمل على مركزة النفوذ السياسي لمصلحة الدولة، ونمط آخر تمثله القبائل الرافضة لهذه المركزة بصورة عامة.

تحولت البلاد التونسية بعد ذلك وعلى مراحل من مجال مقسم على أساس قبلي يضم مجموعات قبلية كبرى محاربة وشبه متنقلة، إلى مجال مقسم إداريا ينتظم فيه الأفراد وتتحدد هوياتهم في إطار ” قيادات”.

يلاحظ المتأمل في العلاقة التاريخية بين المواطن والسلطة الحاكمة أن الدولة تحصّنت بمكانتها السامية في المخيال الجماعي للتونسيين فحفظوها لعهود وجنّبوها الانهيار.

فالتونسي لم يسقط الدولة خلال قرون عدة من تاريخه الاحتجاجي، على الرغم من عمق الهزات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها البلاد، وإنما اكتفى في الأغلب بإسقاط الأنظمة. وعلى هذا المعنى يرى بعض المؤرخين أنه من نتائج “قدم الدولة” في تونس وبسط هيمنتها على أهم أجزاء البلاد أن دعّمت “الوعي الجماعي” لدى السكان. وهذا ما يفسّر ظهور مصطلح الشعب الذي يعبّر عن ظاهرة اجتماعية متمثلة في جمع الأفراد.

واستنادا لهذا الموروث كان من الطبيعي وعلى الرغم من الجرائم التي ارتكبت في حقبة بن علي، ان لا تهتز العلاقة بين الشعب والدولة سنة 2011.

مقاومة المستعمر

لم يكن حظ تونس أقل من حظ جيرانها في عيش تجربة الاستعمار. احتلت فرنسا البلاد وأجبر الباي محمد الصادق على قبول حمايتها. وقاد تخاذل المؤسسة الحاكمة إلى أن تأخذ القوى الوطنية زمام المبادرة للدفاع عن الحرية والاستقلال.

خاض الشعب التونسي من شماله الى جنوبه الكفاح الوطني بوتيرة مستمرة ومتصاعدة. واثبت التراث النضالي أنه كان هناك توافق بين القوى التونسية على اختلاف توجهاتها الفكرية والأيديولوجية في مواجهة المستعمر منذ نهاية الحرب العالمية الأولى ثم الحرب العالمية الثانية خصوصا. لقد ثارت الأجيال على المحتل الغاصب جيلا بعد جيل وتوحدوا امام حق تقرير المصير.

خلال تلك الحقبة تبلورت الفكرة الوطنية التونسية على أساس امتزاج صيغ النضال الشعبي، وتعددت عمليات المقاومة بسبب انتشار الوعي الكافي داخل مختلف الأوساط. و عملت السلط الاستعمارية في المقابل على انتهاج الاقصاء والتوظيف والتلاعب بمحو الذاكرة المحلية والوطنية وتعويضها. في هذا السياق أطلق التونسيون مسارا موازيا لبناء الذاكرة الوطنية إذ تم الانتقال من بناء ذاكرة العائلات الحاكمة إلى الحديث عن مفهوم الأمة والوطن والدولة والسيادة.

لقد شكلت قضية التحرر الوطني أسطورة مؤسسة للأمة التونسية. ومن أبرز المؤلفات “مفتاح التاريخ” للبشير صفر و ” خلاصة تاريخ تونس” لحسن حسني عبد الوهاب، و”تونس الشهيدة” (جماعي)، و”هذه تونس” للحبيب ثامر، و” نحن أمة” لعلي البلهوان.

كان الاستقلال سنة 1956 نقطة تحول في بناء مقومات الدولة الوطنية واستكمال السيادة وتحديث المجتمع. وتخليدا لمحطات مفصلية في هذا المسار ضُبطت حياة التونسيين على تواريخ تجمع بين السيرة الشخصية للزعيم الحبيب بورقيبة ومراحل النضال من اجل التحرر الوطني.

” تونسة ” الشخصية

المعروف عن تونس منذ أقدم العصور أنها كانت شديدة الحفاظ على شخصيتها حتى في العهود التي فرضت فيها لغة جديدة، أو اعتناق دين جديد. وعلى الرغم من تعدد الحضارات واختلافها فقد اكتسبت الشخصية التونسية وعيا بالانتماء إلى حضارة مشتركة.

حاولت الدولة الوطنية التنظير لهذه الشخصية وبناء معايير للهوية ومرجعية انتماء لتونس. واتجهت الاهتمامات بداية الى الجوانب الدينية على عكس ما يُروّج، والاستعمالات اللغوية والتعبيرات الفنية وكذلك المظهر المتمثل في الهندام وغيره. لقد كانت الفكرة الدافعة هي بناء وحدة الشعب من خلال ذاكرة وثقافة مشتركة يتجانس معها التونسيون، مع الانفتاح على مختلف الثقافات التي مرت بها البلاد. على هذا الأساس شكل التراث العربي الإسلامي قاعدة وإطارا حيث نص دستور 1959 على اللغة العربية كلغة رسمية والإسلام كدين للبلاد.

كان حرص الدولة واضحا في تعقّب بصمات الاستعمار الثقافي والسياسي وتعزيز هوية تونسية متجذرة. ولم يمنع هذا الموقف من أن تختار البلاد ثنائية اللغة، العربية لغة الثقافة، والفرنسية لغةً وأداة انفتاح. لقد كانت الدولة متحفّزة الى كل ما يمكن ان يعمّق مظاهر الاختلاف بين أبناء الشعب في مناهج التفكير وأسلوب الحياة وفلسفتها، بل حتى في بعض الأصول والقيم الجوهرية.

ليس من الانصاف اليوم أن يشكك البعض في الشخصية التونسية أو وصف التونسي بصفات مُقزّمة. إن جميع الثقافات الإنسانية والمدارس الفكرية المختلفة تحمل صورة للمجتمع المثالي، وحريّ بنا أن نبحث لدى التونسيين عن مستوى الاقتدار المادي والمعنوي، وعن كل ما من شأنه أن يُعلي مكانة تونس بن الأمم وليس العكس.

ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.

                                                     

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.