يعمل الرئيس قيس سعيد منذ توليه الحكم نهائيا يوم 25 جويلية 2021 على هدم المروية الجماعية السائدة في تونس منذ الاستقلال و تعويضها بخطاب يكيل الاتهامات لخصومه في انتظار بناء المؤسسات الجديدة التي ستصيغ مشروعه التاريخي الاستثنائي…
سعيد بحيرة
خرجت تونس يوم 25 جويلية 2021 من انسداد سياسي لتقع في مناخ سياسي جديد أكثر تعقيدا و أشد حدة… فقد كانت بالأمس ضحية برلمان فسيفسائي يسوده صراع الكتل و المواجهة الشاملة بين الحزب الدستوري الحر و حزب النهضة، و ضحية نظام سياسي ماكر تتحكم فيه رؤوس ثلاثة مما جعله رهينة التنازلات المتبادلة على حساب حوكمة ناجعة و فعلية، و كانت تونس تراوح مكانها طيلة عشرية من الزمن و تغرق كل يوم أكثر في المديونية و تفاقم البطالة و تراجع مستوى العيش و انتشار حالة غريبة من الخوف من المستقبل لا سيما في أوساط الشباب…
و بلغت درجة الانقسامات و الخلافات بين الأحزاب والاتجاهات السياسية مستوى خطيرا أصبح يهدد استقرار البلاد وأمنها، و هو ما فتح الطريق أمام رئيس الدولة ليفعل الفصل الثمانين من الدستور بعد أن تعالت أصوات تطالب بذلك و بعد أن خرج أنصار الرئيس ليتظاهروا و يرفعوا شعار حل البرلمان بل و يستهدفوا مقرات حزب النهضة باعتبارها ترمز إلى الماسك الأول بخيوط اللعبة السياسية…
و هكذا و قعت الطبقة السياسية التي تحكمت في المشهد منذ 2011 في المطب الذي لن تخرج منه سالمة، و مكنت الرجل الذي قدم من خارجها من المسك بدواليب العملية السياسية و من تأويل القوانين مثلما يرى و هو رجل القانون المختص في الدساتير… و هو الحائز على أعلى نسبة للأصوات في انتخابات الرئاسة، و مع ذلك وجد نفسه واحدا مما كان يسمى الرئاسات الثلاث !! و انقلب السحر على الساحر، و سقط المتعالون من علوهم الشاهق لتسحب منهم كل الكراسي التي كانوا يتحصنون بها و ليرجعوا إلى أحجامهم الأصلية.
الرجل القادم من بعيد
كيف استطاع الرجل القادم من بعيد أن يخلط الأوراق و يقلب الطاولة على المتحلقين حولها ؟؟
لقد نعتوه بالأوتسايدر، أي الدخيل على مدينتهم الفاضلة، و اعتبروه مبتدئا في دنيا السياسة، و كانوا يتندرون بأسلوبه في الخطاب و بتحاليله الحالمة، و لم يعتقدوا يوما أنه سيصبح رئيسا أصلا… و عندما تبوأ الرئاسة أرادوا محاصرته في مربعه و إبعاده عن التسيير الفعلي للبلد و قضم بعض صلاحياته، و لكنهم نسوا أن الرجل من طراز جديد و لا علاقة له بقوانين اللعبة السياسية المعهودة و لا بالشخصيات التي حكمت تونس من قبل… فهو ابن مدرسة الاستقلال و خريج الجامعة الوطنية، و ابن الطبقة الوسطى الذي لم تستهويه التيارات الأيديولوجية التي سادت حقبة دراسته الجامعية… لكنه لم يكن منقطعا عنها و اكتفى بالمرافقة و التأمل، و لعله بحث عن بديل للخطاب اليساري الجامح في الحركة الطلابية فوجده في نظرية الثورة العربية كما صاغها رجل القانون المصري اللامع عصمت سيف الدولة … شهد بذلك الأستاذ محمود المهيري و هو العارف بغليان جامعاتنا في سبعينات القرن الماضي و الحركي في رحابها…
و معلوم أن تلك النظرية مكنت القوميين من أداة فكرية ووسيلة معرفية لمحاججة الرفاق اليساريين المسلحين بمدونة نظرية متينة… وكان عصمت سيف الدولة قد ناقش في مؤلفه الجدلية المادية و صراع الطبقات و المسألة القومية و الديموقراطية… و حتى الحركة الطلابية !! ووفر للنشطاء القوميين مقاربة تفند عداءهم للديمقراطية و انحيازهم للبورجوازية الصغيرة و خلطهم بين اليهودية والصهيونية و رفضهم للتنوع و الاختلاف و بذلك أصبحوا طرفا رئيسيا في المشهد السياسي الذي يضم تيارات الدستوريين و اليساريين و الإسلاميين… و قد يكون قيس سعيد متبنيا لهذا الفكر لكنه لم يكن منتميا للتيار القومي في الجامعة. و الثابت أن الرجل يعتز بمرجعياته الثقافية و الحضارية العربية الإسلامية و لا يستنكف من النهل من تجاربها و إرثها و مخزونها…
و لم يعرف عن قيس سعيد نشاط نقابي أو حقوقي زمن بورقيبة و بن علي و لكنه لم يكن نكرة… فقد كان مواكبا للأنشطة الأكاديمية و خاض تجارب قريبة من الشأن العام… و إن لم يصعد كامل السلم المهني فإن زملاءه يعترفون بمثابرته و كفاءته و كذلك الأمر بالنسبة لطلابه. لم ينتظم في أي حركة و لم يمض العرائض و يسر في المظاهرات و لكنه لم يخف أراءه المتحفظة حتى في محافل رسمية و بحضور قيادات في الدولة و الحزب الحاكم، و كان ذلك شأن عديد الجامعيين الذين حافظوا على شعرة معاوية مع النظام القائم. بل منهم من لم يتأخر عن تولي المناصب بدعم الدولة سواء في الداخل أو الخارج… و قد تعاون قيس سعيد مع وزارة الخارجية لمدة قصيرة بقسم حقوق الإنسان، كما كان خبيرا ضمن الفريق المكلف بإصلاح الجامعة العربية، و حضر ندوات و لقاءات انتظمت صلب هياكل رسمية مثل البرلمان و الحزب الحاكم …
و لو أردنا تحديد موقعه السياسي قبل 2011 لقلنا أن قيس سعيد جامعي لا يتميز عن زملائه سوى بطريقة الإلقاء و باستعمال اللغة العربية و بالتركيز في ما يكتب على الإرث الدستوري العربي الإسلامي و بالغموض في ملامح شخصيته مقارنة مع محيطه الجامعي… و هذه مواصفات شخصية عادية لا يخطر على بال المتأمل فيها أنها ستكون في يوم من الأيام على رأس دولة تعتبر نفسها ذات نخبة فكرية و ثقافية و سياسية تحررية و نشيطة…
كيف اخترق قيس سعيد كل تلك النخبة ففاز عليها بصفة ديمقراطية، و ترأس الدولة، ووجه إلى النخبة تهم الفساد، و اعتبر صلاحيتها منتهية و أدوارها مستنفذة، و لذلك وجب تجديدها بفسح المجال لبروز نخب جديدة أقرب إلى الشعب و مشاغله و أصدق وفاء لأهداف ثورة استثنائية انطلقت من الشعب في 17 ديسمبر 2010 و تم السطو عليها في 14جانفي 2014؟
مرحلة غير مسبوقة في التاريخ
و أكثر من ذلك يرى قيس سعيد أن الثورة التونسية فريدة من نوعها، و أنها تبشر بمرحلة غير مسبوقة في التاريخ، و هو يلوح من حين لأخر بضرورة تغيير المفاهيم و تجاوز النظريات التي أصبحت في عداد الماضي… و الذين عاشوا تجربة الجماهيرية و النظرية العالمية الثالثة يجدون تشابها واضحا بين هذه الآراء و بين شعارات المرحوم العقيد معمر القذافي من قبيل عصر الجماهير، والديمقراطية المباشرة، و نهاية الأحزاب، و تصعيد القيادات، و إنهاء التبعية، و مواجهة الإمبريالية الأمريكية…
و قد حضرت مع جمع من الطلاب التونسيين عملية زحف على عميد كلية الطب في طرابلس سنة 1977 و لم نلمس فيها أي نفس ثوري ما عدا طرد الأستاذ العميد و تولي أنفار من الطلبة الانتصاب بمكتبه… و كانت جموع الطلبة غير مبالية تماما بما كان يجري…و في المساء التقيت الطيب الصافي رئيس اتحاد طلاب الجماهيرية آنذاك و كان بيننا نقاش طويل، و قلت له انكم تروجون بدعة لا علاقة لها بالناصرية و بنظرية الثورة العربية… و قد انسحب عصمت سيف الدولة من ليبيا بعد أن أقام بها مدة يشرف على مجلة “الشورى” التي كانت تنشر قيم و مبادئ الثورة العربية المنشودة… فهل ينتمي قيس سعيد حقا إلى هذه التجربة و احتفظ منها بالخصوص على تجاوز الديمقراطية التمثيلية باعتبار التمثيل تدجيل؟ أم أنه تبنى المقاربة الطوباوية هذه ليقرأ تاريخ تونس و يؤول ثورتها؟ و هل كان للثورة الإسلامية الإيرانية تأثير على نفسيته المحبطة ؟
لقد انبهر الرجل بالأحداث التي عرفتها بلادنا بين حادثة انتحار البوعزيزي و نزول المتظاهرين إلى الشوارع في العاصمة و جل المدن و القرى رغم أنها لم تكن المواجهات الأولى بين السلطة و المحتجين… و قد شهدت العقود الماضية أحداثا مماثلة لم يشارك فيها هو، و ربما ولدت في نفسه شيئا من الإحباط الدفين أمام القمع الذي طال التحركات الشعبية…
أما في سنة 2010 و 2011 فإنه تحرر من الخوف ووجد نفسه في غمرة الاحتجاج محاطا بشباب مندفع و مناخ تثويري عام منحه الشجاعة و حرره من قيوده الداخلية التي كانت تكبله منذ شبابه… و تعددت تدخلاته الإعلامية شارحا و معلقا و ناقدا في لغة لم يألفها الناس و في نبرة تذكر بمذيعي راديو صوت العرب أيام الناصرية المناضلة و براديو صوت الوطن العربي أيام المرحوم العقيد…
كابوس الدولة المتسلطة و استشراء الفساد
و تهافتت القنوات التلفزيونية على استضافة الرجل للتعليق على الأحداث، و تسارعت الجمعيات و حتى الأحزاب لتفتح منابرها له و تدعوه إلى ندواتها الكثيرة و استوى في ذلك اليمين و اليسار… ووجدت الشبيبة ضالتها في خطاب قيس سعيد الذي يختلف عن الخطاب المعهود للسياسيين، كما رأت فيه نوعا من التمرد الذي يستهويها أمام تكلس التحاليل الأيديولوجية الباردة… و في اعتصام القصبة الأول و الثاني كان قيس سعيد مرابطا مع الشباب القادم من أعماق تونس و يغني أهازيج الحرية و يحلم بتغيير عميق في البلاد يكنس النخب و يعطي الكلمة للشعب، و كان الشعار الذي لا يعلى عليه هو الشعب يريد… و هو مستمد من قصيدة أبو القاسم الشابي و عنوانها “إرادة الحياة”…
كان هناك حلم يدغدغ الشبيبة و لكنه ينسف مقتضيات الواقع و يقفز على طبيعة الانتفاضة التونسية التي لم يخطط لها أحد، و لم يقدها أي طرف، و ليس لها أي برنامج… لقد كانت صرخة شعبية ضد كابوس الدولة المتسلطة و الحزب الحاكم و استشراء الفساد و المحسوبية و احتقار الفئات الشعبية و الوسطى، و تفاقم الفوارق بين الطبقات و الجهات…
كان ذلك محرك كل الانتفاضات السابقة في تاريخ تونس… سنة 1864 و سنوات الاستعمار و سنة 1962 و خلال فترة التعاضد و في سنة 1978 و في سنة 1984 و في الحوض المنجمي سنة 2008 … هناك و في كل مرة يبلغ فيها الوجع عظم الأجساد ينتفض الناس… ينتفض الشعب ليوقف النزيف و يذكر بأنه صاحب الكلمة الأخيرة دون أن يستشير أحدا و دون أن ينتظر النخبة لتقوده فالحدس الشعبي هو المحرار و هو الذي يعطي إشارة الانتفاض و هو الذي ينهي المواجهة عندما تستجيب السلطة لمطالبه…
و في كل مرة كانت النخب تركب قطار الانتفاض و هو يجري فتلتف على الحركة و توظفها للتموقع في السلطة بعيدا عن حلم الناس في العدل و الحرية و تقاسم الثروة و بذلك تختبأ النار تحت الرماد في انتظار مواجهة قادمة… و قيس سعيد يعتبر أن الفرصة مواتية للخروج من الدائرة المغلقة التي تصادر حلم الشعب منذ عقود طويلة و لذلك يقول أن ما حدث في تونس نقلة تاريخية نادرة و هي تعكس علوا شاهقا لا بد أن يفضي إلى كنس النخب الفاسدة و تصعيد قيادات جديدة، و لا بد من وضع حد لحركات و منظمات تتقمص أدوارا ليست لها فتعطل الانطلاق نحو البناء الجديد، كما يسعى الرئيس إلى تفنيد الرواية الرسمية للتاريخ و هو ما أكده في ديباجة الدستور الجديد حيث قفز على دور الحركة الوطنية و مكتسباتها و ثمن مساهمات أخرى مغمورة مثل “الزمام الأحمر” الذي لا يعدو أن يكون دفترا لتنظيم الجباية زمن حكم البايات الأتراك إضافة إلى تمجيد دستور 1861 الذي أملته القوى العظمى على الباي… ويعمل الرئيس على هدم المروية الجماعية السائدة و تعويضها بخطاب يكيل الاتهامات لخصومه في انتظار بناء المؤسسات الجديدة التي ستصيغ مشروعه التاريخي الاستثنائي…
الخصوصية الحضارية العربية الإسلامية
و يتجاوب مع هذا التوجه الذي يبدو شعبيا و نقاويا جزء لا بأس به من المجتمع و لا سيما الشباب الذي ينتظر تغييرا جذريا في ظروف حياته و لم يعد يتقبل مكونات المجتمع المدني و السياسي التي كانت سائدة قبل 25 جويلية 2021.
و قطع الرئيس قيس سعيد مع الأسلوب المعروف للتواصل مع الشعب و اصبح يبلغ رسائله بطريقة غير مباشرة بحيث يتوجه مثلا إلى أحد الوزراء لكن هدفه هو تبليغ موقف وطني، كما يعمد إلى الجولات التي تبدو فجائية في شارع الزعيم بورقيبة ليلتف حوله الناس و حينها يلقي فيهم كلمة موجهة إلى الشعب…
و هو الوحيد من الرؤساء الثلاث الذين تعاقبوا على حكم البلاد الذي يذهب إلى المساجد بصفة عفوية ليصلي مع الناس، و هو الوحيد الذي يبدأ تدخلاته بالبسملة الكاملة و ينهي خطابه بالحمدلة الكاملة… و هو الوحيد الذي يتكلم العربية الكلاسيكية بكثافة و يستمد أمثلته من التراث العربي الإسلامي، و يكتب رسائله بنفسه، و لا يتورع عن ذكر نوادر الأدب الصغير أو الحديث و السيرة…
و ترى شرائح عديدة من الشعب أن هذا يتماهى مع هويتهم و يقطع مع خطاب قيادات حزب الدستور مثل بورقيبة و بن علي و قائد السبسي، و هم من خريجي مؤسسات جامعية و تكوينية فرنسية… و رغم تخلي قيس سعيد عن إحياء بعض المناسبات الدينية و الوطنية و الإشراف عليها بنفسه كما جرت التقاليد فإنه خير طريقته الخاصة لإحيائها من ذلك المولد النبوي الشريف في القيروان و ليلة القدر بجامع الزيتونة و عيد الاستقلال… و ربما تعكس هذه المؤشرات تقديرا جديدا للأحداث التاريخية و الدينية.
و يخطئ خصوم الرئيس عندما يقيمون طريقة عمله و أسلوب حكمه لأنهم يعتمدون مرجعيات أوروبية مركزية في حين يرفض الرئيس هذه المقاربة و يخير الانطلاق من الخصوصية الحضارية العربية الإسلامية و يرى فيها أحيانا سبقا عن الأولى بل و انطلاقا منها أعاد خلط كل الاوراق…
و لن يكون من السهل أبدا على بلد صغير و محدود الموارد ترتبط نخبه ارتباطا وثيقا بالغرب أن يلعب دور المبشر و الفارس النبيل… و هو بلد تفرض عليه الجغرافيا اعتبارات عديدة ليس له أن يفلت من مؤثراتها أو أن يتعنت في إكراهاتها، كما أن أقوياء هذا العالم لا يقبلون ريادة خارج نفوذهم و ممن يمدون إليهم أيديهم للمساعدات و الاقتراض… و كيف لمن هو في طريق النمو و له اقتصاد ضعيف أن يتدبر أمر الإنسانية في حين يصنع له الغير الدواء و يجهز جيوشه بالتقنيات و له آذان مرهفة و أذرع طويلة ؟؟
استاذ محاضر في التاريخ المعاصر.