ظل خطاب التقسيم للشعب التونسي هو السائد منذ 2011 و لم تتمكن الطبقة السياسية إلى اليوم من إحلال خطاب التوليف و الجمع و التوحيد مكان خطاب التدافع و الكراهية و التقسيم للشعب الواحد. و ما وصل إليه الوضع في تونس من تأزم يعود بالأساس إلى غياب التوافق على أبسط البديهيات و المبادىي الوطنية.
أحمد الحباسي
ما حدث في شهري ديسمبر 2010 و جانفى 2011 لم يكن بالتأكيد ثورة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى و من أهداف و من نتائج و كل ما حدث هو عملية تدافع اجتماعي تكاد تحدث يوميا في عدة دول من العالم الثالث و هذا التدافع لا يحمل أية جينات من جينات الثورات العالمية التي كانت بداية لكل التحولات الإيجابية التي عاشتها الشعوب الثائرة و جعلتها تجنح إلى إرساء مقومات الديمقراطية الحقيقية بما يعنى من انتقال سلمى و سلس للسلطة و ترسيخ مقومات مؤسسة القضاء و ترسيخ قيم حرية التعبير.
لم تكن ثورة بدليل ما حدث من نهب و سرقة و استيلاء مفضوح و مقصود على الأموال و المجوهرات التابعة للقباضات المالية و المؤسسات البنكية و بيوت الأثرياء. و لعل أقرب توصيف لما حدث هو تدافع بقصد النهب والسرقة سيقت فيه شعارات ربما أراد البعض التسويق لها على اعتبارها مطالب من مطالب “الثوار” و لكن الثابت أن من نهبوا البلاد هم مجموعة من المجرمين سولت لهم أنفسهم الاستيلاء على أموال الغير بحجة فاسدة تقول أن تلك الأموال هي أموال المجموعة الوطنية تم استردادها من باب ارجعا المال لأصحابه .
ترويج خطاب الكراهية
لم تكن هناك ثورة شعبية اجتماعية و لذلك ركبها كل السفهاء و المنافقين و الخونة و تبين أن من صعدوا للحكم اثر انتخابات مشبوهة سنة 2011 تم التسويق لها إعلاميا على أنها انتخابات طاهرة شريفة عفيفة مع أن المال السياسي قد لعب دوره و من أشرف على تنظيمها و متابعتها و إعلان نتائجها الملتبسة قد طالته ألسنة الاتهامات هم مجموعة من المرتزقة الذين طالما فقدوا العفة و الوطنية في مراحل كثيرة سابقة لتلك الانتخابات جعلتهم محل متابعات قضائية و لاجئين مأجورين لدى دول طالما تآمرت على تونس مثل بريطانيا و فرنسا.
لقد صعدت حركة النهضة للحكم مع ربيبها محمد المرزوقي و بدل أن تسعى لتقديم خطاب توحيد فقد هرعت إلى بث خطاب التقسيم بأن كفرت كل صوت يعارض توجهها التكفيري المتآمر و بالذات كل الأصوات التي كانت تدرك أن صعودها للحكم هو أكبر كارثة بعد الاستعمار الفرنسي و أن تاريخها الدموي سيضر بالمصالح العليا للوطن و يجعله لقمة سائغة في يد المحمية الصهيونية القطرية و أمثالها.
لقد كان اغتيال الشهيدين شكري بلعيد و محمد البراهمي من أقوى الأدلة الدامغة على ما يمكن أن يؤدى إليه خطاب الحركة المقسم للتونسيين في المساجد و التجمعات من نتائج دموية و ضرب للوحدة الوطنية التى أرساها الرئيس الراحل الزعيم الحبيب بورقيبة.
لقد شارك محمد المرزوقي بصفته منصّبا من حركة النهضة كرئيس في ترويج خطاب الكراهية الذي تعتمد عليه الحركة للحكم و لم يتورع في عدة تصريحات و تدخلات إعلامية و بالذات على قناة الجزيرة سيئة الذكر من وصف التونسيين باللصوص و الحرامية و المنافقين و الذين يستحقون ما وصفه بالفترة النوفمبرية في إشارة خبيثة إلى حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن على.
بث الإشاعات و الأراجيف لتشويه رموز البلاد
لم يسع ذلك الرئيس المؤقت الذي وجد نفسه داخل قصر قرطاج إلى احترام تاريخ الرئيس الحبيب بورقيبة و تضحياته باعتباره داعية من دعاة الوحدة الوطنية بل دفعه مزاجه المتقلب و عقله الممسوح إلى “تأليف” كتاب سماه “الكتاب الأسود” اعتمادا على تزوير كامل لمضمون الأرشيف الرئاسي مستعينا بمدير ديوانه عدنان منصر و تابعه عماد الدايمى و بمباركة مفضوحة من ذلك طارق الكحلاوي. لقد سقط محمد المرزوقي فى الحضيض حين سعى تشويه صورة رموز كبيرة و بث إشاعات و أراجيف حول ماضيها معتبرا أن الأرشيف الرئاسي هو آيات من الذكر الحكيم لا يمكن أن يتضمن باطلا أو كذبا أو دسائس و لقد كان قراره بنشر مثل هذا العقوق الرئاسي الأخلاقي دليلا من بين أدلة قوية كثيرة على أن الدعوات الملحة التي طالبت بفحصه للتثبت من صحة مداركه العقلية و قدرته على قيادة البلاد لم تأت من فراغ.
لقد جاء المرحوم الباجى قائد السبسي للحكم نتيجة ما آلت إليه أوضاع البلاد من سقوط على كل المستويات نتيجة الحكم الفاشل لحركة النهضة و اهتمامها المفرط و المتآمر بتقسيم التونسيين بين طيبين و أشرار و لقد كان مؤملا أن يستغل الرجل حنكته و ماضيه السياسي لمحاسبة حركة النهضة على كل ما اقترفته من جرائم مختلفة غير أنه انقلب على إرادة الأغلبية و بات غلاما طيّعا في يد أعداء الحرية و ناشري ثقافة الإرهاب و جهاد النكاح بل سمح لمرشد حركة النهضة في مؤتمره العاشر أن يتفوّه بتلك العبارة المشينة واصفا تونس بكونها تطير بجناحين في إشارة لحركة النهضة و حزب نداء تونس.
مزيد الايغال في خطاب التقسيم
لقد سمح الرئيس المرحوم بمزيد توغل خطاب التقسيم و التكفير و بعلانية قيام حركة النهضة بتوطيد علاقتها الآثمة بالنظام التركي المتآمر الأمر الذي زاد من إستقواء الحركة و دفعها إلى ” عزل ” حليفها المريض باستقطاب طمع رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد و حلمه ليصبح رئيسا و هو ما سمح بالنتيجة للحركة من إعلان نفسها صراحة اللاعب السياسي الوحيد و الجهة الوحيدة القادرة على تنصيب و عزل الرؤساء و بطبيعة الحال بلغ خطاب التقسيم فى تلك الفترة الملتبسة منسوبا خطيرا غير مسبوق .
لم يكن هناك من كان يتوقع صعود الرئيس قيس سعيد للحكم كما لم يكن هناك من يتوقع أن يتحول الرجل بين عشية و ضحاها إلى ممارس لخطوات غير منتظرة من بينها على سبيل المثال إلغاء دستور 2014 الذي أقسم اليمين على احترامه و قد كان الأمر مقبولا بعض الشيء لو لم تتحول لغة خطاب الرئيس من هدوء و تسامح إلى لغة تقسيم و تهديد بسلب الحرية لكل من يتطاول قيد أنملة على ذلك الوليد سيء السمعة الذي رفضته الأغلبية و المدعو بالمرسوم عدد 54 لسنة 2022 و الذي تحول من نص قانوني إلى سيف بتّار ضد كل حاملي القلم و رواد حرية التعبير و معارضي لتمشى الرئاسي بمختلف توجهاتهم.
لقد تحولت الساحة السياسية بالنسبة للرئيس إلى ساحة لا يؤمها إلا اللصوص و العملاء و الفاسدون و المرتشون كما تحولت الإدارة و القضاء و الإعلام إلى مؤسسات معادية لما يسمى بمسار 25 جويلية و لم يبق للرئيس إلا أن يعلن هذه المرة و بمنتهى الوضوح و الصراحة أن من ليس معه فهو ضده و بهذا المنطق فقد يكون مكانه هو السجن كما يروج له أتباع الرئيس على منصات التواصل الاجتماعي صباحا مساءا و يوم الأحد و كأنهم الوحيدون على حق و بقية التونسيين على ضلالة و يستحقون السجن.
كاتب و ناشط سياسي.