تتسم العودة الأدبية في فرنسا خلال شتاء 2024 بأعمال أدبية عميقة ومؤثرة تسلط الضوء على تعقيدات الهوية والجذور الجزائرية من خلال كتابات ثلاثة مؤلفين فرنسيين من أصول جزائرية: نينا بوراوي، ولوليتا سيني، وأكلي تدجير. هؤلاء الكتاب، الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة، يحيون من خلال رواياتهم ذكريات بلد مرير عاش بين الاستعمار والحرب والاستقلال، وينقبون في التاريخ والذاكرة الشخصية والجماعية لفهم تداعيات تلك الأحداث على الهوية الفردية والجماعية.
جمال قتالة
نينا بوراوي Nina Bouraoui، المعروفة بأسلوبها الأدبي الفريد الذي يجمع بين الإشراق والقوة العاطفية، تواصل استكشافها لمسألة الهوية والاقتلاع من خلال روايات تعتمد بشكل كبير على تجربتها الشخصية. وُلدت بوراوي لأب جزائري وأم فرنسية، وعاشت سنواتها الأولى في الجزائر قبل أن تضطر عائلتها إلى الفرار إلى فرنسا في أواخر السبعينيات خوفًا من الاضطرابات السياسية المتزايدة. في روايتها الأخيرة، Grand seigneur (سيد كبير) تواصل بوراوي معالجة هذه التجربة من خلال قصص تتناول مواضيع مثل الطفولة، والحب، والرغبة، والأنوثة، وكل ذلك ضمن إطار من الكتابة الذاتية العميقة التي تجعل من الكتابة نفسها وسيلة لمواجهة الماضي والتصالح معه.
في روايتها السابقة Satisfaction (رضى)، قدمت بوراوي قصة مستوحاة من حياتها العائلية، حيث تتبعت حياة مدام أكلي، وهي فرنسية هاجرت إلى الجزائر بعد الاستقلال. بوراوي صورت في هذا العمل حياة امرأة تعاني من كآبة عميقة، تستخدم الكتابة كوسيلة للتعبير عن معاناتها النفسية، وفي الوقت نفسه، رسمت لوحة لمجتمع جزائري يعاني من التحول نحو التطرف.
لوليتا سيني، Lolita Sene التي برزت لأول مرة في عام 2015 بروايتها “C. La face noire de la blanche”، التي تناولت فيها تجربتها الشخصية مع إدمان الكوكايين، تعود بعد فترة غياب طويلة برواية جديدة تتناول موضوعات أكثر حدة وقسوة. روايتها الجديدة “صيف عند جدة” Eté chez Jida هي عمل مؤثر يتناول قصة الطفولة المُدمرة لبطلتها إستير، التي تعرضت للاعتداء الجنسي المتكرر من قبل عمها طوال سنوات طفولتها.
الرواية تقدم استكشافًا عميقًا للثقافة القبائلية، حيث تكشف سيني عن تناقضاتها؛ من جانب تُظهر هذه الثقافة بمظاهرها الاحتفالية والإيجابية المتمثلة في الضحك والرقص والغناء، ولكنها في الوقت نفسه تنتقد بحدة تقاليدها البطريركية التي تفرض الصمت والشعور بالخجل على الضحايا. من خلال تصوير رحلة إستير من كونها ضحية إلى امرأة قوية تسعى لكسر هذا الصمت والبحث عن العدالة، تفتح سيني نافذة على العالم الداخلي للنساء اللاتي يعانين في صمت من قسوة المجتمع.
أكلي تدجير، Akli Tadjer الكاتب الذي قدم أعمالاً رائعة تتناول تاريخ الجزائر، يختتم ثلاثيته التاريخية عن الجزائر بروايته الجديدة “من الدمار والمجد” De ruines et de gloire. هذه الرواية تأخذنا إلى فترة ما بعد الاستقلال، تحديدًا إلى الأيام التي تلت توقيع اتفاقيات إيفيان في مارس 1962. يعود بطل الرواية آدم الحشمي آيت عمار، المحامي الذي تلقى تعليمه في فرنسا والذي كان من دعاة الاستقلال، إلى الجزائر مع والده في محاولة لبدء حياة جديدة في وطنهم الذي تحرر حديثًا.
تدجير يرسم صورة قاتمة لجزائر ما بعد الاستقلال، بلد ممزق بين العنف والكراهية، حيث تحاول الشخصيات إعادة بناء حياتها في ظل واقع مليء بالألم والضياع. يجد آدم نفسه مكلفًا بالدفاع عن إميليان بوستورينو، عضوة في منظمة الجيش السري (OAS) ومؤيدة متحمسة للجزائر الفرنسية. هذه القضية تضع مبادئ آدم على المحك وتجعله يشكك في قناعاته العميقة.
بالتوازي مع قصة آدم، تتابع الرواية عودة والده إلى قريته القديمة، حيث تواجهه ذكريات ماضيه، بما في ذلك الحب الكبير في حياته، زينا، التي توفيت بشكل مأساوي في حريق. تدجير يستكشف من خلال هذه القصة التوترات بين جيلين؛ جيل الشباب الذي يجب عليه اتخاذ قرارات حاسمة لمستقبل بلده، وجيل الأقدم الذي يواجه أشباح الماضي ويبحث عن طريقة للتصالح مع ما مضى.
من خلال هذه الرواية الطموحة والمليئة بالتفاصيل التاريخية الدقيقة، يختتم أكلي تدجير ثلاثيته عن الجزائر، مقدماً عملاً أدبيًا يعتبر تحية لهذا البلد الغني والمعقد، والذي لا يزال يضمد جراحه بعد عقود من الاستقلال.
مجموعة هذه الأعمال الثلاثة تساهم في تسليط الضوء على الروابط المعقدة والدائمة بين فرنسا والجزائر، وكيف تستمر هذه العلاقات المؤلمة في إلهام أدب قوي وعاطفي يعبر عن تجارب الفقد، والبحث عن الهوية، والرغبة في التفاهم والمصالحة.