تونس :التغيير الحكومي أو حكومة الأعمال بالنيّات 

حكومة جديدة بنسبة 80 في المائة أعلن أمس عن تكوينها و لكن ما أشبه الليلة بالبارحة. فهل أن تجميع عدد من الأشخاص بلا هوية و لا رؤية و لا خط سير واضح و معلن عنه سيحل مشاكل تونس و هل أن تعيين حكومة دون توفير مناخ اجتماعي سليم و وحدة وطنية صمّاء و في قطيعة شبه تامة مع معظم المنظمات القومية و تحت توجيه وابل من الاتهامات لكل الأطراف السياسية و تجميعهم في سلة واحدة بإمكانه أن يصنع معجزة و تونس اليوم بحاجة فعلا إلى معجزة للخروج من مأزق انسداد الأفق الاقتصادي و تنامي البطالة و تفاقم العجز الخارجي و المديونية المتزايدة ؟

بقلم أحمد الحباسي

أمس الأحد 25 أوت 2024 قرر السيد الرئيس قيس سعيّد القيام بتغيير شبه كامل في التشكيلة الحكومية التي يقودها الوزير الأول الجديد (والرابع منذ تولي الرئيس الحكم أواخر 2019) السيد كمال المدورى و كالعادة  غفلت مصالح الإعلام في الرئاسة و في وكالة الأنباء الرسمية عن تقديم النبذات المعتادة حول سيرة حياة الوزراء المعينين و الذين  كانوا مجهولين تماما بالنسبة لأغلب المتابعين للشأن الحكومي و السياسي.

سنتجاهل عامل  التوقيت خاصة أن التحوير قد شمل بعض الوزارات التي يعتبرها البعض “وزارات سيادة” مثل وزارتي التعليم و الفلاحة على وجه الخصوص و التي و رغم أهميتها و ضرورة أن يسمح للوزير القائم عليها بوقت متسع نسبيا للقيام بالإصلاحات الكبرى و الإستراتيجية العميقة التي تتطلبها عملية الترميم و التغيير فإن بقاء الوزير لم يتجاوز بعض الأشهر اليتيمة التي لا يمكن أن تكون كافية إطلاقا  للقيام بأدنى عملية إصلاح مهما كان نوعها أو ضرورتها.

سنتجاهل أيضا عامل الغياب التام للسياسة الاتصالية الواضحة و الناجعة سواء بالنسبة للرئيس أو بالنسبة لكل الحكومات التي عينها منذ صعوده للحكم سنة 2019 مع ما يعنى ذلك من ما يمكن تسميته بحكومات غياب التواصل و ضعف الاتصال حسث أن الوزراء نادرا ما يتحدثون للشعب عما يفعلون أو لا يفعلون.

تعدد الإقالات أو الإعفاءات و التغييرات

لعل أهم الاستنتاجات في خصوص كل حكومات الرئيس قيس سعيّد أنه و رغم تعدد الإقالات أو الإعفاءات أو التغييرات فإنه لا أحد يعلم أسباب التغييرات المستمرة سوى ما ينقله بعض المقربين من أنها جاءت نتيجة تقلب مزاج الرئيس أو نتيجة عدم ارتياحه إزاء هذا أو تلك و إضافة مزيد من الغموض على عمليات التعيين أو الإقالة على حدّ سواء.

الظاهر  من واقع الأحداث أن الرئيس قيس سعيد و رغم إدراكه فشل الحكومة برمتها أو فشل أحد أو أكثر من وزير فإنه يرفض محاسبة كل وزير تمت إقالته على رأى “اذهبوا فأنتم الطلقاء” بالرغم من أن هناك من الوزراء من ارتكب أخطاء سواء على مستوى التسيير أو التخطيط أو التواصل أو القيام بما يجب لدرء بعض النتائج السلبية التي أدت إلى  ندرة المواد الغذائية على سبيل المثال.

من اللافت أيضا أن الرئيس قيس سعيّد لم يستطع لحد الآن رغم إشراف عهدته الرئاسية الأولى على الانتهاء على تحرير سطرين معبّرين بوضوح و شفافية عن كونه يملك  “خطا تحريريا” أو ما يعبر عنه في السياسة ببرنامج الحكومة أو بصفة أدق بالخطوط العريضة للسياسات العمومية المزمع إتباعها و التي تؤدي إلى استرجاع ثقة المواطنين في الدولة. فالتصريحات و إن تواترت واتسمت بالتكرار فإنها لا تعد برنامجا حكوميا يتسم بالوضوح و التكامل و الانسجام.

لعل السؤال الأكثر تداولا يتعلق بتعمد رئيس الدولة نفسه عدم  تقديم برنامج عمل واضح يمكن محاسبته على عدم تنفيذه و لعل هناك من يتحدث على أن غياب هذا البرنامج الواضح ليس أمرا معزولا عن  السياق الذي يتصرف فيه الرئيس و الذي يراد له أن يكون غامضا قابلا لكل الافتراضات و التأويلات و هي خلطة يعتبرها البعض قد مكنت الرئيس من تغيير الدستور و إعادة ترتيب قواعد اللعبة السياسية حسب هواه و تطويع القضاء بسبب تغيير وظيفة القاضي الذي بات مجرد موظف لدى السلطة التنفيذية و من استمالة الهيئة العليا للانتخابات التي عملت على تنفيذ سياسة هدفها تقليض عدد المنافسين المحتملين للرئيس باستعمال تأويلات قانونية تمس من سلامة ملفات ترشحهم للانتخابات الرئاسية القادمة.

نحن إذن أمام حكومة قادمة تعمل بلا برنامج أو خط سير واضحين و معلن عنهما و لو بالحد الأدنى عملا بمبدأ الأعمال بالنيات و و دزّ تخطف و عندك بحرية يا ريس.

ما أشبه الليلة بالبارحة

ما هي تصورات السيد الرئيس للثقافة  كرافد من روافد التنمية و لكيفية إصلاح التعليم و معالجة موضوع انتشار المخدرات و القضاء نسبيا على البطالة و توفير السلع الغذائية الأساسية و مقاومة الفساد و إصلاح  المنظومة الصحية و توضيح مواقف الدبلوماسية التونسية من انعكاسات الأزمة الليبية و ماذا استفادت تونس من  تقاربها مع الجزائر على حساب القطيعة المكلفة مع المغرب و كيف سيتم معالجة البرود و الجفاء إن لم نقل القطيعة مع دول الخليج و هل أن التوجه نحو الصين قد بات اختيار الضرورة و ماذا جنينا منه و هل أن العلاقات مع صندوق النقد الدولي قد وصلت إلى طريق مسدود و كيف سيتم معالجة  ملف النازحين الأفارقة و موضوع الهجرة غير الشرعية بصفة عامة و ما هو برنامج الرئيس للقضاء على التغلغل الصهيوني في تونس و هل أن تونس تقف مع فتح أو مع حماس أو مع السلطة الفلسطينية و كيف سيتم معالجة ملف تجريم التطبيع وهل سيوضع قانون لذلك.

هل حان الوقت لفتح ملف الاغتيالات  لمعرفة الحقيقة السياسية و القضائية حول اغتيال الشهيدين شكري بلعيد و محمد البراهمي و هل يمكن الحديث عن وجود إرادة رئاسية صلبة لفتح ملف الإرهاب و الفكر المتطرف في تونس في علاقة بما حصل منذ صعود حركة النهضة للحكم سنة 2011.

لعله يجب التذكير أن حكومات الرئيس قيس سعيد لم تتمكن نتيجة عدم وضوح الرؤية أو بسبب عدم إلمامها بالواقع و عدم قدرتها على استنباط الحلول على حلّ أية مشكلة أو ملف بل أن ما “يحسب ” لها أنها زادت بحكم تقاعسها و ارتباكها في مزيد تعكير الأوضاع و جرّ البلاد إلى أزمات متتالية في كل الميادين و المستويات و لعل عدم قدرة حكومتي السيدة نجلاء بودن و أحمد الحشاني على إيجاد حلّ ناجز و سريع لمشكلة إنتاج و بيع الفوسفاط و هو الحل الممكن الذي بإمكانه توفير عائدات مالية محترمة بالعملة الصعبة دليل صارخ على فشل حكومات تسيير الأعمال التي بعثها الرئيس للوجود ثم وأدها في لحظة انفعال أو تحت تأثير أولاد الحلال.

اليوم يمكن القول ما أشبه الليلة بالبارحة و هل أن تجميع عدد من الأشخاص بلا هوية و لا رؤية و لا خط سير سيحل مشاكل تونس و هل أن تعيين حكومة دون توفير مناخ اجتماعي سليم و وحدة وطنية صمّاء و في قطيعة شبه تامة مع كل المنظمات القومية و تحت توجيه وابل من الاتهامات لكل الأطراف الوطنية و تجميعهم في سلة واحدة مع المطلوبين للعدالة بإمكانه أن يصنع معجزة و تونس اليوم بحاجة فعلا إلى معجزة للخروج من مأزق انسداد الأفق الاقتصادي و تنامي البطالة و تفاقم العجز الخارجي و المديونية المتضخمة ؟

كاتب و ناشط سياسي.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.