الذكرى الأولى لوفاة الشيخ محمد الشريف الإمام الأول لجامع الزيتونة المعمور

يوافق يوم الجمعة 30 أوت 2024 الذكرى الأولى لوفاة المنعم المبرور سيدي محمد بن محمد حمدة الشريف الإمام الأول لجامع الزيتونة المعمور الذي وافته المنية يوم الأربعاء 13 صفر 1445 هجري ووري الثرى بمقبرة الجلاّز يوم الخميس 14 صفر 1445 هجري إثر الصلاة علي جنازته بجامع الزيتونة أدام الله عمرانه.

ياسين القمري

ولد الشيخ محمد الشريف رحمه الله يوم السابع من شهر أفريل من سنة 1933 بدار الشريف الواقعة بنهج سيدي معاوية بمدينة تونس ونشأ في مناخ علمي زيتوني مجيد حيث عاصر أباه الشيخ محمد حمدة الشريف -الإمام الأكبر لجامع الزيتونة في عصره- ودرس في جامع الزيتونة فتدرج في رتب الإمامة إلى أن صار إماما ثانيا سنة 1988 وخلف أخاه الشيخ سيدي أحمد الشريف رحمه الله في الخطابة بالنيابة إلى أن تمّ إبعاده عن الإمامة في شهر ماي 2012 بقرار سياسي رغما عن أدائه واجبه على أكمل وجه.
وإبّان استرجاع الدولة لجامع الزيتونة المعمور سنة 2015- بعد فقدان وزارة الشؤون الدينية لسلطة الإشراف عليه لمدة تقارب ثلاث سنوات (2012-2015)، سمي الشيخ محمد الشريف في خطة الإمام الأول لجامع الزيتونة المعمور بمبادرة من الشيخ عثمان بطيخ رحمه الله -وزير الشؤون الدينية آنذاك- ومفتي الجمهورية سابقا، وقد اغتبط الناس لذلك وهنّأوه بعودته إلى الإمامة- وشهدت على ذلك اليوم البهيج -فقام بشؤون المنبر والمحراب على أحسن وجه مثلما اقتضاه مقامه الجليل إلى أن تم تعيينه إماما أولا شرفيا لجامع الزيتونة المعمور في نفس تلك السنة.

جامع الزيتونة منارة للإسلام المعتدل

وقد كان الشيخ محمد الشريف رحمه الله أول من سمي برتبة “الإمام الأول الشرفي” لجامع الزيتونة المعمور حيث لم يسبق- على حد علمنا- لأحد من أئمة الجامع المعمور أن حظي بهذه الرتبة سواء بعد عزلهم أو عدم قدرتهم على الإمامة لأحد الأسباب كالمرض مثلا. وقد تم له ذلك إجلالا لقدره وحفظا لكرامته وتوقيرا لنسبه الشريف بعد تعيين الأستاذ الشيخ هشام بن محمود – مفتي الجمهورية حاليا- في خطة الإمام الأول للجامع المعمور الذي كان ولا يزال خير خلف لخير سلف- أعانه الله على ما فيه خير لوطننا والأمة الإسلامية قاطبة.

كان الشيخ محمد خير حافظ لرسالة أجداده آل الشريف بالجامع المعمور بحرصه على أن يكون جامع الزيتونة منارة للإسلام المعتدل وكان حريصا على حسن ترتيب الشعائر حسب الأعراف والتقاليد العريقة بجامع الزيتونة المعمور حسبما ذكرها المؤرخون والتي لايزال منها ما هو قائم إلى اليوم منذ حكم الدولة الحسينية.

ومن بين هذه التقاليد التي شهدناها في زمن إمامة الشيخ رحمه الله ما ذكره الدكتور محمد العزيز بن عاشور في كتابه “جامع الزيتونة، المعلم ورجاله” في خصوص بدء شعائر صلاة الجمعة وهو أن يفتح باب بيت الإمام- أي المقصورة- على مصراعيه فيخرج الإمام إلى بيت الصلاة مسبوقا ب”وقاد” و”باش وقاد” يليه “باش مزوال” فيكون الإمام آخرهم ” وعندما يصل الإمام إلى المنبر يأخذ المزوال العصاة (العكاز) ويناولها الإمام” و تقتضي العادة ألا يجلس مرافقو الإمام أثناء صعوده إلى المنبر بل يجب أن ينتظروا جلوسه أولا ثم يجلسون بعده وهي تقاليد لازالت قائمة والحمد لله.

ومن الشعائر التي لا تزال موجودة والتي حرص الشيخ محمد الشريف على المحافظة عليها سنة دعاء الإمام سرا بعد الصلاة وتأمين المزوال جهرا إذ يرفع الأخير صوته بقوله “اللهم آمين يا رب العالمين” ويتبعه في ذلك بعض مؤذني الجامع بعد إشارة الإمام على المزوال – وهو جالس قبالة الشيخ مباشرة في صف الصلاة- بانتهاء الدعاء ويكون الدعاء والتأمين بتلك الصيغة ثلاث مرات وبعد التأمين للمرة الثالثة يختتم الدعاء بالفاتحة وقراءة آية “وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين”. وبعد قراءة الفاتحة والآية المذكورة ينهض المزوال نحو باب بيت الإمام- أي المقصورة- فيحتذي الباب -وهو لايزال مفتوحا على مصراعيه- ليستقبل شيخه ويسلم عليه بانحناءة خفيفة قائلا “سيدي تقبل الله” ويبادله الشيخ نفس الدعاء ثم يتوجه إلى المكان المخصص للإمام في بيته ويهنئه الوقادة بتمام الصلاة.

وقد جرت العادة أن يصلي إمام الجمعة صلاة العصر من ذلك اليوم وبانقضاء صلاة العصر والانتهاء من الدعاء وتلاوة الفاتحة على النحو المذكور آنفا يستقبل الشيخ المصلين أمام المحراب ليتقبل التهاني الخاصة بيوم الجمعة -وهو عيد المسلمين من كل أسبوع – وتبادل الدعاء بالقبول فالمألوف أن الناس كانوا لا يسلمون على الإمام بعد الانتهاء من صلاة الجمعة مباشرة، بل يكون ذلك بعد صلاة العصر فأول من يسلّم على الشيخ بعد صلاة الجمعة هو المزوال. ولقد كان الشيخ محمد الشريف رحمه الله ملازما للابتسامة عند تحية الناس يسلم بابتهاج على كل من حضر الصلاة كبارا وصغارا وكان مثالا لرحابة الصدر ورفعة الأخلاق وتلك لعمري سمة الأشراف الذي هو سليلهم.

وأما المواكب الاحتفالية بالمناسبات الدينية الكبرى بالجامع الأعظم فقد كان للشيخ حضور مهيب عند الاحتفاء بها فهو الذي يزيدها بهاء وشموخا بوقاره وحضوره بلباس أهل العلم الذي يتحلى به إجلالا لتلكم اللحظات المباركة التي يُحتفى فيها بالقرآن كريم أو الحديث الشريف أو بعض المناسبات الإسلامية الأخرى.

ومن أبرز هذه المواكب ختم الحديث الشريف ليلة السابع والعشرين من رمضان الذي عادة ما يحضره رئيس الدولة وكبار المسؤولين حيث يُسرد الحديث الشريف من قبل أئمة الجامع المعمور فيبدأ الامام الثالث بسرد نصيب من كتاب الشفا للقاضي عياض يليه الإمام الثاني الذي يقرأ نصيبا من صحيح مسلم ثم يختم الإمام الأول سرد الحديث من صحيح البخاري ويختتم كلامه بالدعاء وانعقاد موكب ختم الحيث الشريف بعد صلاة العصر من يوم السادس والعشرين من رمضان يكون تتمة لسرد الحديث في باب الشفا على النحو المذكور ابتداء من شهر رجب إلى يوم الختم بصفة أسبوعية.

تعظيم شعائرالله وإجلال المقومات الثقافية للأمة الإسلامية

وأما الصنف الثاني من المواكب المهيبة التي كان الشيخ رحمه الله نجمها اللامع فهو الاحتفال بالمولد النبوي الشريف حيث ينتظم موكب سرد الهمزية الذي يفتتحه الامام الأول بسرد قصة المولد على النحو الذي رتّبه الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي رحمه الله- الإمام الاول لجامع الزيتونة المعمور في عصره- يتخلله سرد لنسب الرسول عليه الصلاة والسلام وقراءة أبيات شعرية في تعظيمه صلى الله عليه وسلّم فإذا وصل الإمام إلى قوله ” فَقُمْ أَيُّهَا الرَّاجِي لِنَيْلِ شَفَاعَةٍ * قِيَامَ مُحِبٍّ صَادِقِ القَوْلِ وَالأَدَبْ” يقف جميع من في الجامع إكراما وإجلالا لمولد سيد البرية عليه الصلاة والسلام وتسرد قصيدة الهمزية بعد انتهاء الإمام الأول من كلامه حسب المقامات المعروفة في أدائها بالبلاد التونسية.

ولئن دلّ ما ذكرناه سابقا على شيء فإنه يدل على حرص الشيخ محمد الشريف رحمه الله على المحافظة على مميزات جامع الزيتونة المعمور في إقامة الشعائر والاحتفال بالمناسبات الدينية الكبرى ببلادنا منتهجا في ذلك نهج أسلافه وفي ذلك تعظيم لشعائرالله وإجلال للمقومات الثقافية للأمة الإسلامية حسب خصوصياتها التونسية.

رحم الله سيدي محمد الشريف الذي كان زينة المنبر والمحراب بالجامع الأعظم وجميع شيوخنا وأعلامنا الآفلين ونفعنا بهم وببركاتهم وبعلمهم إلى يوم الدين وبارك لنا في من بقي منهم.

تونس في 29 أوت 2024.

محام.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.