في كل عام تجتمع الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر، ويتلو زعماء العالم تقاريرهم وخطبهم الشهيرة، وكلٌّ يغنّي على ليلاه، وكلٌّ ينادي بضرورة إرساء العدل والأمن في العالم، وبعد أن تشابكت الأحداث وازدادت الحروب ظلّ الأمين العام للأمم المتحدة صاحب الكرسي الخشبي يردّد عبارات ينادي ويطالب ويندّد ويشجب، وبقيت الجمعية العامة للأمم المتحدة على مدى حياتها ترسم قرارات لا معنى لها وإن كانت في صالح دول ضعيفة لأنها ببساطة غير ملزمة للطرف المُعتدي، فالقضية الفلسطينية نشأت بعد نشوء الجمعية العامة للأمم المتحدة ورغم ذلك بقيت عالقة إلى اليوم وهي تمثل العُقدة في تفكيك لغز بقائها على هذا الحال.
فوزي بن يونس بن حديد
وتصويتُ الجمعية العامة للأمم المتحدة هذه المرة يتلخص في مطالبة إسرائيل بإنهاء احتلالها لفلسطين فورا، وصوّتت لصالح القرار 124 دولة وعارضته 14 دولة وامتنعت عن التصويت 43 أخرى، مما يدلل على أن العالم لو طبق هذا القرار لزال الاحتلال قبل هذا التاريخ ولكنها إرادة المستعمر حينما يوغل في إيلام مستعمراته، وإيذاء العدالة، وردم الإنسانية.
وفي حين تعيش الأمم المتحدة اليوم أسوأ أحوالها وهي تجتمع شكلا، فإن قراراتها تمثل سخرية واستهزاء بالإنسانية، وإيغالا في طمس المبادئ والقيم التي تأسست من خلالها ووجدت لتحقيق الاستقرار والأمن والاستقلال للمنكوبين والمظلومين في العالم، ولكنها صارت ألعوبة في يد الامبرياليين العالميين الذين لا يعرفون سوى لغة واحدة هي المصالح أولا، ومن ثم فإن هذه المنظومة الدولية ينبغي أن تُحال على التقاعد، أو تتم إقالتها، والسعي إلى بناء منظومة جديدة يتعهد أعضاؤها بإيجاد خارطة طريق تمكّن الدول جميعها من حقّها في الحياة بحريّة والاستفادة من ثرواتها وحقّها في صنع السياسة التي تريدها دون أن تكون لأي دولة عظمى حق التصرف بمفردها على حساب أي دولة أخرى.
إجرام الدول العظمى
وغير ذلك يبقى النظام العالمي نظام غاب، وهو ما كشف عن وجهه اليوم بعد أن تنامت الأحزاب المتطرفة التي كانت نائمة في وقت مضى لكنها كانت تدير العالم خلف الكواليس، واليوم وبعد أن بان مخططها وجد الناس أنفسهم أنهم استيقظوا متأخرين، وعلى الزمن أن يعود إلى الوراء حتى تستعيد الدول الضعيفة أنفاسها وقوّتها لتواجه أكواما من الإجرام المفصلي والتناسقي بين دول سمّت نفسها دولا عظمى.
وبالرجوع إلى قرار الأمم المتحدة الذي يتضمن إنهاء إسرائيل- دون إبطاء- وجودها غير القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة في غضون مدة أقصاها 12 شهرا من تاريخ “اتخاذ القرار”، وأن تمتثل إسرائيل دون إبطاء لجميع التزاماتها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك على النحو الذي تنصّ عليه محكمة العدل الدولية وبأن تقوم إسرائيل بستة إجراءات وهي سحب جميع قواتها العسكرية من الأرض الفلسطينية المحتلة، وإنهاء سياساتها وممارساتها غير القانونية بما في ذلك الوقف الفوري لجميع الأنشطة الاستيطانية الجديدة وإجلاء جميع المستوطنين من الأرض الفلسطينية المحتلة وتفكيك أجزاء الجدار الذي شيّدته، وإعادة الأراضي وغيرها من الممتلكات غير المنقولة، وجميع الأصول التي تم الاستيلاء عليها منذ عام 1967 والسماح لجميع الفلسطينيين الذين نزحوا أثناء الاحتلال بالعودة إلى أماكن إقامتهم الأصلية، وعدم إعاقة الشعب الفلسطيني عن ممارسة حقه في تقرير المصير بما في ذلك حقه في إقامة دولة مستقلة ذات سيادة على كامل الأرض الفلسطينية المحتلة.
مطالبات ستبقى حبرا على ورق
فإننا نرى قائمة من المطالبات التي ستبقى حبرا على ورق، وإن سمّي ما قيل عنه في أروقة الأمم المتحدة بأنه قرار، بل ستتفل عليه الحكومة الصّهيونية كعادتها وترميه في قمامتها ولا تعدّه قرارا لأنها تعلم أنه غير ملزم، وما تقوم به الأمم المتحدة مسرحية هزلية هزيلة لا معنى لها ولا تؤثر في الحياة العامة، وما يجري على الأرض مخالف لما يجري في كواليسها، ما يجري على الأرض حربٌ ضروس بمختلف جوانبها واتساع جرمها وكِبر تأثيرها، وما يجري في كواليسها لقاءاتٌ بين الأصدقاء الأعداء، ومصافحاتٌ وهمزاتٌ ولمزاتٌ واتفاقاتٌ سرية تبيّن حجم الكارثة خارجها.
لذلك قلتُ إن أي قرار يصدر من الأمم المتحدة وإن كان في ظاهره يخدم القضايا الإنسانية عموما والقضية الفلسطينية خصوصا إلا أنه لا يتعدّى بابها بل إنه يأفل ويذوب قبل الوصول إليه، ويخرج الساسة من الجمعية العامة وكأنه لم يقع شيء أو حديث عن قضية جوهرية تمس جوهر الإنسان نفسه.