لم يكن هجوم السابع من أكتوبر 2023 مغامرة متهورة. كان تتويجا لتحضير طويل، و كان عملا محسوبا خططه فتية يعيشون في الغيتو الذي ابتدعته الصهيونية المتوحشة. كانت غزة سجنا و محتشدا مفتوحا من فوق و محاصرا على الأرض طيلة سنوات، و كان الأهالي يشتبكون من حين لآخر مع جلاديهم، فيقذفون الحجارة و يتلقون الرصاص، و يسقط أطفالهم شهداء في العراء. و من هناك انطلقت الانتفاضة الأولى، و من هناك انطلقت منظمة التحرير الفلسطينية، و من هناك خرج الجيش الصهيوني منهكا بأمر من شارون سيئ الذكر.
سعيد بحيرة
المكان مثقل بالتاريخ و الأحداث، و هو مضرج بدماء الشهداء فكيف لا تسكنه روح المقاومة؟ و كيف لا تتكثف داخله مشاعر الإهانة التي يقابلها الإصرار على الإباء؟
تلك هي الجغرافيا التي انطلق منها المقاومون لتذكير العالم بقضيتهم التي لفها النسيان، و لتحريك السواكن الموجعة و إنارة العتمة المخيفة. كانوا يدركون أنهم ربما لن يعودوا أبدا، و كانوا يعرفون أنهم يثيرون الوحش الشرير الذي أكل من حلمهم و كسر عظمهم و حطم أحلامهم. و منهم من قضى في سجونه أحلى أيام العمر حيث استباحوا جسده و حاولوا هدم معنوياته لكنه خرج أصلب من ذي قبل. هؤلاء لم يعودوا يعرفون الخوف و الجبن أبدا.
كان العدو واثقا من انتصاره النهائي و جبروته اللامتناهي و من قوته الساحقة. يكفيه القصف و القتل السريع و السهل بآلات حربه القذرة، لكنه لم يحسب حسابا لتلك الأنفس الأبية و تلك الأرواح النبيلة و تلك الأنفس أخت العزة و الأنفة. فالموت واحد، و إن كان لابد منه فليكن دفاعا عن الحرية و الكرامة و أرض الأجداد و الأسلاف.
غفل العدو فانقض عليه فتية غزة المحاصرة ليقولوا للعالم هناك مظلمة يجب أن ترفع.
فهل أخطأ الفتية ؟
بالحساب البسيط ، نعم . لقد تسببوا في مأساة لسكان غزة فجعلوهم لقمة سائغة لجيش إسرائيل. و لكن بالحساب الصحيح لم يخطؤوا لأنهم انتشلوا قضية فلسطين من القبر.
و لمعارك الحرية ثمن باهض منذ أن وعى الإنسان بالحرية. و بالأمس دفع الجزائريون الأنفس النفيسة قربانا للكرامة و الحق، و مثلهم فعلت كل شعوب الأرض بشكل أو بآخر.
لقد هجم بني صهيون بعداء و دموية و حقد لا مثيل له. قرروا الانتقام بشراسة و توحش. مليونان من البشر يقصفونهم ليلا ونهارا منذ ثلاث مائة و خمسة و ستين يوما. يدفعونهم شمالا ثم جنوبا ثم شرقا ثم غربا .قطعوا عنهم الماء و الكهرباء و الغذاء و الدواء، و دفنوا بعضهم أحياء . تفننوا في تعذيبهم ليخافوا و يهربوا خارج أرضهم لكنهم خيروا البقاء فيها و لو أمواتا سمادا لتربتها. يقول اليهود أنهم فقدوا ستة ملايين قتيل على يد النازية، فكيف بقيت في نفوس أبنائهم هذه القسوة و التعطش للقتل و التنكيل؟ و يقولون أنهم ورثة الأنبياء و الوصايا العشر لكنهم يبيحون التصفية و التعذيب و العنصرية. و يقولون أنهم شردوا في الصحاري و مع ذلك يشردون ملايين الفلسطينيين و يقصفون مخيماتهم. يقولون أنهم شعب الله المختار و يكفرون بالله و برسله. و دولتهم خلقتها الأمم المتحدة بقرار، و مع ذلك لا يطبقون قرارات الأمم المتحدة. و يقولون أنهم يخوضون حربا و الحال أنهم يشنون حربا.
من يوقف أبشع إبادة بشرية عرفتها الإنسانية ؟
هل هو المجتمع الدولي؟ إنها عبارة جوفاء يؤولها كل على هواه و مصلحته.
هل هو مجلس الأمن؟ إنه لا يطبق قراراته إلا على الضعفاء.
هل هي الدول العربية ؟ إنها صدفة فارغة ، وهي تتفرج على العدوان و بعضها يباركه.
ماذا بقي إذا ؟؟
كان الزعيم بورقيبة يردد عبارة طريفة: الدوام ينقب الرخام.
و على الفلسطينيين دوام المقاومة حتى ترضخ إسرائيل للقانون الدولي و تلتزم بأخلاق الحروب و تغادر هوسها الديني وأساطير شعب الله المختار.
أستاذ التاريخ السياسي و التقافي بالجامعة التونسية.
شارك رأيك