هل أن حذق تكنولوجيا الاتصال تبيح للمدونين نشر حثالة المحتوى ليلوثوا عقول اليافعين؟ إنها المعادلة الصعبة التي تعكر مزاج تونس هذه الأيام، و تعيد طرح الأسئلة القديمة حول الحرية و الفوضى.
سعيد بحيرة
المعذرة يا شاعر الجمال و الصبايا و نفاق الأعراب إن استعرت منك عنوان مقالي هذا فالزمن متوقف هاهنا منذ كتبت أنت عن هلوسات العرب و هم يكتفون بالخبز الحافي، و يدخنون سجائر محشوة حشيشا، و يلوكون حكايات عفا عليها الزمن و هم متكئون على أرائك متهالكة أو كومة من التراب أو الرمل…
منذ رحيلك و نحن هناك أوفياء لكسلنا و أوهامنا و كل خزعبلاتنا…
و من حولنا تتغير الدنيا و حتى الطبيعة و نأبى نحن أن نتغير …
لكننا نقتبس من الآخرين كل ما يزيد سطوة السلطة، و كل ما يزيد الأغنياء ثروة و يزيد الفقراء بؤسا…
و نأخذ أيضا ما يدغدغ شبقيتنا المجنونة و نرجسيتنا المكنونة و فانتازماتنا المهبولة…
تذكرتك يا عاشق بلقيس و أنا ممزق بين تعلقي بالحرية و تشبثي بالحدود التي تفصل بين الأشياء، و بدونها تسري الفوضى و يختلط الحابل بالنابل…
و اشتد هذا التمزق أمام بيان وزارة العدل الذي يخص سلوك بعض المدونين و تبعه إيقاف عدد منهم، فتملكني شعور باحتمال التضييق على حرية الناس و لاسيما الشبيبة منهم، فرحت أبحث عما يكدر صفو مزاج البلد…
ولجت إلى الشبكة العنكبوتية و كتبت اسم السترايمر الذي تم إيقافه و لم يسبق لي أن سمعت عنه و أنا الذي يجهل حتى معنى السترايمر…
و جدته شابا في مقتبل العمر يغني بكلمات هجينة و ركيكة و قبيحة، و يقوم بحركات عصبية مثيرة للغرائز، و يرقص كالمغزل دون فن ولا قواعد… و يتبادل هذا الولد الحديث مع المعجبات بمفردات إباحية سوقية داعيا إلى الانحراف و المجون…
و قد ذكرتني مهارته البهلوانية في برم سيجارة الحشيش على الهوا بقصيدك المبكي المضحك على أمة ضحكت من جهلها الامم…
نعم، إنه يمجد المخدرات على الهواء كما يمجد الأرداف و النهود و العيون، و ما خفي كان أعظم…
هل هو يمارس حريته أم هو يدنسها فيغتالها ؟ و هل هو حر في ترويج هبلته كما يشاء أم عليه الوقوف دون حرية الآخرين؟ هل أن حذق تكنولوجيا الاتصال تبيح له نشر حثالة المحتوى ليلوث عقول اليافعين؟
إنها المعادلة الصعبة التي تعكر مزاج البلد هذه الأيام، و تعيد طرح الأسئلة القديمة حول الحرية و الفوضى. و قد استطاع الذين ابتكروا هذه التقنيات أن يرسموا الحدود و ان يضعوا القيود لماكيناتهم العجيبة و تطبيقاتهم الذكية لتسير في أغلبها على طريق النفع و التقدم في حين تلقفها المقلدون للعبث و الانحراف.
و لن تجد في فنلندا او إيرلندا أو كندا ما يماثل هراء بعض المدونين عندنا ليس لأننا منحرفون بالسليقة، و لكن لأن الفضاءات عندهم منظمة بقوانين و مدونات و شروط تحمي الناس دون تقييد أو ردع. أما عندنا فلا أزال أتذكر ذلك الشاب الذي أطل علينا في شاشة التلفزيون ليقنعنا بإباحة ترويج المخدرات و زراعتها عوض منعها و هو الذي أسس حزب الورقة تيمنا بورقة الحشيش…
نعم ، لقد حصل انفلات في ما زعموا أنه حريات، و لكن الانفلات الأكبر و الأخطر يكمن في غياب القواعد التي تنظم الحياة، و أظن أن لا أحد يخيرها على الفوضى، و أن خيرها لن نغاد الخبز والحشيش و القمر.
باحث جامعي و كاتب.
شارك رأيك