طاهر حليسي : شهادة صحفي جزائري في قلب الحرب اللبنانية

في عالم الصحافة، حيث تتداخل الحقيقة مع الرواية، يظهر دور الصحفي كناقل موضوعي للأحداث، يتحمل مسؤولية نقلها بنزاهة وموضوعية. ويعتبر الصحفي الجزائري طاهر حليسي من أولئك الذين اختاروا خوض غمار التغطية الصحفية في مناطق النزاع، محققًا توازنًا بين الشغف المهني والواجب الأخلاقي.

جمال قتالة

من خلال تجربته في توثيق الحرب في لبنان، يقدم حليسي نموذجًا رائدًا يعكس جوانب متعددة من الحروب، بما في ذلك تحديات العمل الصحفي في ظروف قاسية وتأثيرات النزاع على المجتمعات المحلية.

نسلط في هذه المقابلة الضوء على تجربته كأول صحفي جزائري كتب مذكراته حول تجربته في تغطية حرب لبنان، واللحظات الفارقة التي عاشها، والضغوط النفسية التي واجهها، وأهمية الفهم العميق للسياقات الثقافية والسياسية في مناطق النزاع. هذه الشهادة تعد مرجعًا مهمًا للإعلاميين المقبلين، وتسلط الضوء على واقع التغطية الإعلامية في زمن العنف والنزاع

أنباء تونس : كيف بدأت مسيرتك الصحفية، وما الذي دفعك لخوض تجربة توثيقية للحرب كمراسل جزائري في لبنان ؟

طاهر حليسي : بدأت مسيرتي الصحفية بشغف كبير تجاه الكتابة، التي أعتبرها وسيلة للتعبير عن الذات ومشاركة التجارب مع القراء. لطالما جذبني سرد القصص، خاصة تلك التي تتعلق بالواقع الاجتماعي والسياسي المعقد.

فيما يتعلق بمذكراتي حول حرب تموز، فهي نتاج إرادة توثيق حدث مهم ليس فقط بالنسبة لي، بل أيضًا بالنسبة للعالم العربي. كان هدفي هو إدخال القراء في قلب أحداث الحرب في لبنان، التي تتردد أصداؤها مع النزاعات المعاصرة في غزة وأماكن أخرى. اعتقدت أنه من الضروري تسليط الضوء على صوت صحفي جزائري، لسد الفراغ في توثيق الأحداث من قبل كتّاب من العالم العربي. غالبًا ما نتعرض لروايات غربية لا تعكس واقعنا. أردت تقديم منظور محلي وأصيل، واضعًا تجربتي في خدمة الطلاب والمهتمين بالإعلام، ليتمكنوا من فهم قضايا نزاعاتنا دون الاعتماد على التفسيرات الخارجية.”

هل كانت هناك لحظات معينة تركت فيك أثرًا خاصًا أثناء تغطية الحرب في لبنان؟

هناك العديد من اللحظات التي لا تُنسى، لكن من أكثر اللحظات تأثيرًا كانت قبل السفر. شعرت بضغط هائل من زملائي وأصدقائي الذين حاولوا ثنيي عن خوض هذه التجربة. استمر هذا الضغط حتى وصولي إلى سوريا، حيث لاحظت في عيون البعض استغرابًا، وكأنني أقول وداعًا للحياة مسبقًا. حتى عائلتي، باستثناء والدتي، لم تدعمني في هذا القرار. كانت هناك مخاوف كبيرة من أن أعود مصابًا. على أرض الواقع، رأيت مشاهد مروعة من الأشلاء والجثث التي لا تُنسى. أتذكر بشكل خاص يوم 13 أغسطس 2006، عندما نجوت من الموت بفارق دقائق قليلة خلال القصف الإسرائيلي في حارة حريك. كانت تلك اللحظات عصيبة للغاية وشديدة الخطورة.”

كيف واجهت الضغوط النفسية والعاطفية أثناء تغطيتك لأحداث عنيفة كهذه؟

قبل مغادرتي، أعطاني صديق صيدلي مهدئات لمساعدتي في التعامل مع الضغط النفسي، لكنني قررت عدم تناولها. أفضل شيء في مثل هذه الظروف هو أن نترك الأمور تسير مع التحلي بالصبر. تعلمت أنه في مثل هذه الأوقات من التوتر، من المهم الالتزام بمبادئ السلامة والوقاية التي تُدرس في دورات تغطية الحروب. الصحفي ليس مقاتلًا ولا يجب أن يتعامل مع الأمر بهذا الشكل. من الضروري أن نتذكر أن المهمة الرئيسية هي نقل الحقيقة بدقة.”

ما هي التحديات التي واجهتها في التعامل مع الأطراف المختلفة أثناء تغطية النزاع، وكيف حافظت على حيادك كمراسل؟

تتضمن تغطية النزاعات العمل في أروقة سرية، وكان من المهم للغاية تجنب الانغماس مع شخصيات لها صلات بأجهزة المخابرات. شهدت على اختطاف المصور الذي كان معي، مما جعلني أتخذ احتياطات أكبر. العمل في مثل هذه الظروف يشبه التقدم على أرض ملغومة، حيث يجب أن تكون كل خطوة مدروسة. تعلمت أهمية الحفاظ على علاقات مهنية بحذر شديد، والتأكد من عدم تورطي مع أفراد قد يسببون لي مشاكل. هذا يتطلب يقظة مستمرة وفهمًا عميقًا للسياق الذي أعمل فيه.

ما هي أهم المهارات التي يجب على الصحفي اكتسابها للعمل في مناطق النزاع والحروب؟

يجب أن يتمتع الصحفي بمهارات قوية في السلامة والأمن، وأن يكون واعيًا بالسلوكيات التي قد تثير الشبهات. طُلب مني، على سبيل المثال، إجراء تحقيق حول جماعات متشددة، لكنني رفضت لأنه لم يكن ضمن نطاق مهمتي، وكان قد يعرضني للخطر. من الضروري أيضًا أن يكون الصحفي ملمًا بالسياق الثقافي والسياسي للمنطقة. التواصل مع السفارات أو الهيئات الدبلوماسية كان أساسيًا لضمان سلامتي. في بيئة النزاع، تكون التفاصيل الصغيرة فارقة.

كيف ترى مسألة التحيّز في التغطية الإعلامية للنزاعات، وما رأيك في تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على هذا الجانب؟

التحيّز موجود في كل مكان، وهو جزء من طبيعة الصحافة منذ بداياتها. المؤسسات الإعلامية غالبًا ما تعكس ميولها الفكرية والسياسية. المؤسسات التي تدعم المقاومة تميل إلى تبني مواقف مؤيدة لحزب الله، بينما الإعلام الغربي يقدم وجهات نظر معاكسة. لكن مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، بدأنا نشهد تغييرات مهمة. هذه المنصات تتيح للناس من جميع أنحاء العالم الاطلاع على الروايات التي تُهمش في وسائل الإعلام التقليدية. على سبيل المثال، عندما وقعت المجازر في غزة، كانت هذه المنصات هي التي أظهرت الحقيقة، وفتحت عيون العديد من الغربيين على الأوضاع المأساوية.

ما الهدف الذي تسعى لتحقيقه من خلال نشر مذكراتك عن الحرب، وكيف تأمل أن يستفيد منها القراء وطلاب الإعلام؟

“الهدف من نشر هذه المذكرات هو إنشاء وثيقة تعكس تجربة متعددة الزوايا، تساعد القراء على فهم واقع الحروب بعمق. حاولت كتابة العمل بأسلوب روائي لجعله ممتعًا وسهل القراءة. أطمح أن يكون هذا الكتاب مرجعًا للطلاب والصحفيين المستقبليين لفهم الصراعات بشكل عقلاني بعيدًا عن العواطف والأيديولوجيات. من المهم تطوير رؤية موضوعية تجاه هذه الأحداث، وفهم أن هناك تعددية في الآراء ووجهات النظر في مناطق مثل لبنان، حيث التعدد الطائفي والسياسي يحتم علينا عدم احتكار الحقيقة من قبل طرف واحد. في النهاية، أسعى إلى تعزيز فهم شامل ودقيق للصراعات، مما يساعد على تعزيز الحوار البناء بين الأطراف المختلفة.”

ما هو الحدث أو اللحظة الأكثر تأثيراً في مسيرتك الصحفية، وكيف غيّر ذلك نظرتك للصحافة الحربية؟

تزدحم أيام الحرب بالأحداث، فهي حداد متواصل في الزمان والمكان. أعتقد أن من أكثر اللحظات تأثيراً كانت قصة السيدة إنعام نور الدين، امرأة في الأربعينيات من عمرها لم تكن قادرة على الإنجاب، مما اضطرها وزوجها إلى خوض عملية أطفال الأنابيب بعد أن أنفقا كل مدخراتهما التي أفنيا عمرهما في جمعها. تكللت العملية بالنجاح بعد محاولة فاشلة، وبُشّرت بتوأم. لكن، لسوء الحظ، لم يُكتب للغلامين الحياة؛ إذ تعرضت السيدة لصدمة شديدة إثر قصف تسبب في مجزرة في الشياح، فأجهضت حلمها بالأمومة. هناك أيضاً صورة لا تزال عالقة في ذهني لشخص من النبطية وجدته في حديقة الصنائع، التي تحولت إلى حديقة للنازحين. كان يستمع طوال الوقت إلى مذياع، رغم أنه فقد سمعه خلال قصف استهدف مجموعة من المنازل، بينها منزله. قدرتُ أنه كان فقط يكرر عادةً قد اعتاد القيام بها، أو ربما كان يصر على استعادة سمعه المفقود.

كيف أثرت التعاونات مع الصحفيين المحليين على تقاريرك وفهمك للديناميكيات المحلية في لبنان؟

من المهم للصحفي أن يكون مطلعاً على أحوال البلد الذي يزوره، وأن يفهم البيئة التي سيتحرك فيها، وأن يعرف التقاليد والتوازنات السياسية. مثلاً، لا يمكن للصحفي أن يتناول موضوعاً في لبنان دون أن يعرف تركيبته الطائفية، الأحزاب والشخصيات، وكذلك اتفاق الطائف، ونشأة حزب الله، وتاريخ الشيعة في هذا البلد وعلاقاتهم بإيران. هذا يشمل جميع الأحزاب أيضاً. كنتُ مطلعاً على كل هذا، وكنت أقرأ الصحف والمجلات اليومية، كما التقيت سياسيين وصحفيين، لا بالضرورة لإنجاز عمل معهم، بل للتعرف على المشهد والخلفية الضرورية لفهم الديناميكيات المحلية.

ما النصائح التي تقدمها للصحفيين الشباب الذين يرغبون في التخصص في تغطية النزاعات، خاصة في منطقة معقدة مثل الشرق الأوسط؟

أهم شيء للمتخصصين في تغطية الحروب هو الاطلاع على قواعد السلامة، فهناك بروتوكول خاص يُدرَّس في هذا المجال. وكما قلت، لا ينبغي أن يكون الصحفي شهيداً، بل شاهداً؛ بمعنى ألا يخاطر بحياته، وأن يتقيد بإجراءات السلامة، وألا يسعى وراء بطولة عندما يكون الأمر متعلقاً بحياته. فالحرب ليست زلزالاً طبيعياً أو تسونامي، بل هي “مزرعة أموات”. على الصحفي أيضاً أن يتحلى بالموضوعية وألا ينساق وراء الدعاية المرتبطة بالحروب، وأن يتمتع بالصبر ورباطة الجأش والهدوء، لأن الموت مسألة قدر؛ فالإنسان لم يختر بدايته، ولن يستطيع اختيار نهايته.

السؤال الختامي لإنهاء المقابلة: “عند النظر إلى تجربتك ككل، ما الذي تأمل أن يحتفظ به القراء من مسيرتك وعملك كصحفي يغطي مناطق النزاع؟

كل ما أتمناه هو أن يصل مؤلفي إلى القراء وأن يكون مرجعاً جزائرياً لتغطية الحروب، خصوصاً لطلبة الإعلام والمتخصصين، وأن يفتح الباب أمام كتابات أخرى سواء في الجزائر أو في البلدان المغاربية. أعرف صحفيين غطّوا حروباً لكنهم لم يشاركوا تجربتهم مع القراء، ما لا يخدم التوثيق والتدوين.

التدوين مهم جداً بالنسبة لنا، لأنه يعكس وجهة نظرنا إزاء ما يحدث من حولنا. من العيب أن يكتب الآخرون القضايا المتعلقة بمحيطنا الجغرافي والثقافي. إذا لم تروِ قصتك، فسيرويها الآخرون بالنيابة عنك.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.