تنتمي رواية “الجوع” للكاتب النرويجي كنوت هامسون Knut Hamsun، الفائز بجائزة نوبل لعام 1920، إلى أدب السيرة الذاتية، و قد وضع فيها الكاتب القيم في مواجهة الجوع. كان صراعا عنيفا، قاسيا على بطل الرّواية الذي تمسّك بالقيم رغم قسوة الحياة. رواية “الجوع” لا تنتمي إلى زمن كتابتها، بقدر ما تنتمي إلى زمن قراءتها.
مراد الفضلاوي
لا نعرف الكثير عن ماضي البطل، سوى كونه شابّا مثقّفا أنهى تعليمه بنجاح، وهو الآن يبذل كلّ ما في وسعه للحصول على وظيفة تحفظ كرامته، و تقيه من الجوع. و لكنّه في كلّ مرة يواجه بالرّفض لأسباب واهية.
و رغم مواهبه في كتابة المقالات الصّحفية، فإنّ أبواب دور النشر قد صُدّت في وجهه لعدم ملاءمة مقالاته لروح العصر، و إصراره على الخطّ التّحريريّ الذي يؤمن به.
لم ينل من عزيمته الجوع، و البرد، و المرض، حتّى أنّك لتشفق عليه، و تتمنّى في محطّات كثيرة من الرّواية لو يتنازل قليلا، لا عن مبادئه، بل عن مبالغاته، كي يسدّ رمقه، و يرحم جسده. و رغم ذلك لم يفعل.
جوع الحرّية و بردها
صوّر لنا الكاتب حياة مفعمة بالبؤس و الإحباط و المعاناة، فشل صاحبها في كلّ شيء، حتّى في الحبّ، و قد انتهت مغامرته العاطفيّة الوحيدة بدون سبب واضح، رغم توفّر أهمّ مقوّمات نجاحها.
الصراع مع الجوع، و اللهث وراء لقمة العيش، يسيطران على أحداث الرواية إلى حدّ يجعلها أقرب إلى الملحمة على رأي هيغل، و جورج لوكاتش. و قد وصل الأمر ببطل الرواية إلى قضم الخشب، من شدّة الجوع، و أكل العظام المخصّصة للكلاب.
بلغ أسوأ حالاته عندما قبل عرض شرطيّ أشفق عليه، ذات شتاء بارد، بأن يدخله السّجن بتهمة التسكّع ليحصل هناك على الطّعام و الدفء. و لكنّه سرعان ما تراجع، و آثر جوع الحرّية و بردها، على طعام السّجن و دفئه.
أجمل ما في هذه الرّواية من النّاحية الفنّية أنّ الكاتب أطلق العنان للشّخصيّة الرّئيسيّة لتتصرّف وفق ما تمليه عليها إرادتها، الى درجة يستعصي فيها على القارئ استباق الأحداث، و توقّع مآلاتها.
صورة قاتمة عن حياة المدن
كأن يخوض البطل صراعا مضنيا من أجل الحصول على طعام، أو دريهمات قليلة، حتى يستنزف طاقته، و يوشك على الهلاك جوعا، و قبل أن يسدّ رمقه بقليل، تسوق إليه الأحداث محتاجا في طريقه، فيؤثره على نفسه، و يتنازل له عن طعامه، أو دريهماته، و يبيت ليلته يتضوّر جوعا.
تنتهي الرواية بقرار البطل المفاجئ بالهجرة على متن باخرة تجاريّة. واضعا بذلك حدّا لمعاناته في مواجهة قسوة الحياة. فيتنفّس القارئ الصّعداء، و قد تحوّلت القراءة الى لهث مرهق، يقطع الأنفاس، خلف بطل الرواية، وهو يقطع شوارع أوسلو طولا و عرضا، بلا كلل و لا ملل، باحثا عن عمل أو طعام.
في الحقيقة، لم يتخلّ البطل عن وطنه، و قد تمسّك بالبقاء على أرضه إلى آخر رمق. و لكنّ الوطن هو الذي تخلّى عنه، و لفظه. و قد صُدّت قي وجهه كل أبواب الرّزق، و الحياة الكريمة، في عصر تنكّرت فيه الدولة لدورها الإجتماعي، و ترَك المجتمع أبناءه فريسة للبطالة، و المرض، و الجوع، و امتهان الكرامة.
قدّم لنا الكاتب من خلال هذه الرّواية صورة قاتمة عن حياة المدن، و الحضارة المادية عموما، في القرن التاسع عشر، قرن الثورة الصناعية، و التحوّلات الكبرى التي شهدتها أوروبا، و أدّت إلى توسّع المدن على حساب الأرياف، و هيمنة الأنانيّة و النّزعات الفرديّة على حساب القيم التقليديّة، و بروز تيّارات فكريّة مناهضة لهذه التحوّلات، تزعّمها مثقّفون من بينهم كاتب الرّواية كنوت همسون.
و رغم أنّ زمن كتابة الرّواية يعود إلى أكثر من قرن، فإنّك تشعر، و أنت تقرؤها، أنّها لا تنتمي إلى زمن كتابتها، بقدر ما تنتمي إلى زمن قراءتها.
شارك رأيك