عفاريت الإدارة العمومية تتلاءم مع الزمان والمكان

نحمل في مخيّلتنا صورا عن العفاريت والشياطين رسمتها الأساطير والخرافات وبعض الأديان. قد يتخيّلها البعض بأجنحة وذيل ومخالب وأنياب مع قدرات خارقة، ولكن مهما اختلفت الروايات في وصفها إلّا أنّها تتشابه من حيث قبح المنظر وقبح الفعال. لا تزال المجتمعات المعاصرة تؤمن بوجود هذه الكيانات الشرّيرة ولكن بنفس تلك الصورة التي نقلتها الخرافات. فهل انقرضت العفاريت والشياطين أم أنّها قد تطوّرت لتأخذ أشكالا أخرى تتلاءم مع الزمان والمكان؟

جمال سكراني

إن افترضنا جدلا أنّ للعفاريت والشياطين وجود، فمن الحمق أن ننتظر ظهورهم على شكل وحوش بأجنحة تنفث النار وتطلق البرق والصواعق، فتلك الأشكال لا تصلح اليوم إلّا في أفلام الرعب أو أزياء التنكّر في الهالوين. فنحن نعيش الآن في أحد أكثر المجتمعات البشريّة تطوّرا من حيث التنظيم ومن حيث التكنولوجيا ومن حيث القيم الإنسانيّة التي نحملها. فإن كان للعفاريت وجود فهي لن تظهر بذلك الشكل الخرافيّ والمتخلّف، وإلّا لأصبحت مدعاة للسخرية على مواقع التواصل الاجتماعيّ، كما أنّ البشر الآن يملك من الأسلحة والعتاد ما يفوق قوّة تلك النار التي ينفثها التنّين الطائر أو تلك العصا الشوكيّة التي يحملها الشيطان الأحمر.

عفاريت في شكل معاصر

إن كان للعفاريت وجود، فسوف تأتي في شكل معاصر وسوف تبحث عن مكان مناسب لآداء مهامها الأزليّة والمتمثلة في إلحاق الأذى بالبشر وزرع بذور الشرّ. ولا مكان في عصرنا هذا يمكنك فيه أذيّة البشر وزرع بذور الشرّ مثل الوظيفة العموميّة.

خلقت لتكون آداة الدولة لإدارة المرفق العامّ وتنفيذ السياسة العامّة للسلطة السياسيّة، ولكنها أصبحت كيانا بذاته جعل من الدولة والسلطة السياسيّة آداة له لنهب ثروات الشعب وتخريب المرافق العموميّة. هو كيان له جاذبيّة مخالفة لقوانين الطبيعة والفيزياء، حيث كلّما صعدت فيه إلى الأعلى أحسست أنّك قد اقتربت من القاع، وكلّما ظننت أنّك قد لمست القاع يتّضح أنّ هناك قاع آخر. وهو كيان عاص ومتمرّد، تصدر الأحكام ضدّه ولا ينفّذ، يعربد كما يشاء ويرتكب الجرائم كلّ يوم ثمّ يدفع القرابين وأكباش الفداء فيما يسمونه “ملفات بحث وتدقيق” وليست سوى مسرحيّات سيّئة الإخراج.

يملك أسلحة فتّاكة وعلى رأسها ما يسمّونه “التفقّد الإداري والمالي” وهو بمثابة فرق الأنياب عند قوات الحرس والشرطة. حيث يطلقونهم على البشر ينهشون لحمهم ويمزّقون أعضائهم دون أيّ ندم أو رحمة. فإنّ الرحمة والشفقة والندم هي أحاسيس بشريّة أمّا الكلاب فتنفّذ أوامر أصحابها مهما كان فيها من ظلم وعنف ودمويّة مقابل قطعة لحم نتنة.

“المنظومة” لا نعرف من هي حتى نحاسبها

ولهذا الكيان التزامات غريبة وعلى رأسها “واجب التحفّظ” أو ما يعرف في لغة المافيا “الأوميرتا” جعلوا منه ستارا لحجب جرائمهم وانحرافاتهم. كما أنّ له شمّاعة ينسب إليها هذه الجرائم والانحرافات والتي تعرف باسم “المنظومة” ونحن لا نعرف من هي حتى نحاسبها ونحاكمها.

تأتي العفاريت والشياطين في عصرنا هذا في بدلة وربطة عنق مع وضع اليد على اليد والتي أصبحت العلامة التجاريّة للوظيفة العموميّة. لن تستعمل هذه الكيانات الشرّيرة الطرق والأساليب والحيل القديمة، بل قد تأتي بشهائد علميّة ومهارات فنيّة متطوّرة. وتتلقّى العفاريت والشياطين أجرها من الشعب مقابل نهب ثرواته العامّة وإفلاس شركاته الوطنيّة وتخريب مرافقه العموميّة. وحيث تدلّ الأرقام، كلّ الأرقام، أنّ الثروات منهوبة والشركات مفلسة والتربية خراب والصحّة خراب والنقل خراب وكلّ ما هو عموميّ لم يتبقّى منه سوى الخراب.

امتلأت الوظيفة العموميّة بالعفاريت وأصبحت المسؤول الأوّل سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة عن جرائم القتل اليوميّة وحوادث الطرقات وارتفاع الأسعار وتدنّي مستوى المعيشة والتسبب في الأمراض والأسقام وتدهور كلّ المؤشرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة. أصبحت الوظيفة العموميّة القاتل المتسلسل واللص والمحتال والمغتصب وهي عدوّ للأفراد والمجتمع والدولة.

غياب الإصلاح و التجديد و الصيانة

ربّما كانت هذه الآداة صالحة فيما مضى، وربما كان لها دور إيجابيّ في بناء الدولة. ولكنّها بقيت على حالها منذ إنشائها دون أيّ عمليّة إصلاح أو تجديد أو صيانة، لقد اهترأت وتعفّنت وانتشر الخلل والعطب في كلّ وظائفها. وككلّ الأدوات مهما اختلفت وظائفها تصبح غير صالحة مع مرور الزمن، سواء لخلل أصابها أو انّ الزمن قد عفا عنها أو الاثنين معا كما حصل مع الإدارة العموميّة.

وإنّ مآل الأدوات التالفة إمّا المتاحف أو المزابل بعد تأمين الإغلاق عليها بإحكام حين تكون مليئة بموادّ سامّة وخطرة. وتحمل الوظيفة العموميّة أخطر السموم وأفتكها، وأصبحت بعد تعفّنها وكرا للعفاريت والشياطين. لا مجال للشكّ في أنّ آداة مثلها لا أمل لها في الاستقرار بالمتاحف، فهي كيان غير مرغوب فيه حيث يعتبر المواطن أكثر أيّامه تعاسة هي تلك التي يكون مظطرا فيها لزيارة إحدى الإدارات العموميّة، فكيف سيزورونها في متحف؟

لا مجال للصلاح والإصلاح إلّا بإلقاء هذه الآداة بخططها الوظيفيّة ومنحها وامتيازاتها وخصوصا عفاريتها في سلّة القمامة واستبدالها بآداة أخرى تقوم على المشاريع والبرامج عوض تلك الخطط التي لا تصلح سوى للابتزاز وامتصاص دمائنا عن طريق المنح والامتيازات.

موظف عمومي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.