اتحاد الشغل و السلطة : هل هي معركة الحرس القديم؟     

بمناسبة إحياء الذكرى الثانية و السبعين  لاغتيال الزعيم النقابي و الوطني فرحات حشاد لا يمكن أن نمر مرور الكرام على حال العلاقة اليوم بين الاتحاد العام التونسي للشغل و السلطة القائمة خصوصا و أن كلا الطرفين يتمسكان برمزية حشاد و يتبنيان دوره التاريخي، بل و يحتفيان به جنب إلى جنب، و ها هم يقرؤون الفاتحة على روحه الطاهرة بغض النظر عما يختلج في الصدور…

    سعيد بحيرة

فالسلطة على ما يبدو ترى أن الرجل أدى دوره التاريخي بشجاعة  واقتدار، ووهب نفسه في سبيل حرية البلاد و انعتاق الطبقة العاملة بالفكر و الساعد، و أسس لمدرسة نقابية تونسية عمادها الدفاع عن حقوق العمال من جهة و المشاركة الفاعلة في تدبير الشأن العام من جهة أخرى.

و قد استمر هذا النهج من تاريخ الحصول على الاستقلال إلى بضعة سنوات خلت و إن بأشكال متنوعة انتقلت من المشاركة المباشرة في الحكومة إلى خوض صراع أجنحة الحكم حول الخلافة مما أدى إلى المطالبة باستقلالية ملتبسة فسحت المجال لدخول  المعارضة السياسية  الراديكالية في هياكل الاتحاد. 

 و في عهد الرئيس زين العابدين بن علي استرجع الاتحاد موقعه كشريك في الحكم و إن بأسلوب جديد تراجع  فيه البعد السياسي لفائدة تقاسم المنافع مما أدى إلى بروز انشقاقات داخلية لم يعرف مثلها سابقا ، و ظهرت منظمات جديدة يقودها غاضبون كانوا في مواقع قيادية، و اهتزت صورة المنظمة العتيدة المتماسكة لتفسح المجال إلى نوع من البراغماتية و شئ من الحسابات الذاتية. و مع ذلك لم تغلق قنوات الاتصال مع السلطة وقامت بعض الشخصيات المخضرمة بدور الواسطة و الوسيط.   

السباحة في نفس النهر مرتين أمر صعب

 و بعد سقوط النظام نتيجة الترهل الداخلي و فساد الحوكمة و غضب الفئات الشعبية التقط الاتحاد العام التونسي للشغل الفرصة لاسترجاع صورته التي فقدها منذ سنة 1978، لكن السباحة في نفس النهر مرتين أمر صعب إن لم يكن مستحيلا، زيادة على اندحار النخب القديمة ، و تهافت نخب جديدة تضم النشطاء السياسيين المتسرعين  و الحالمين، و بعض عجائز الذئاب من الساسة المتربصين بالحكم منذ عقود طويلة و ليس في قلوبهم مكان للاتحاد.

و في هذه  الجمهرة كان هناك وافدون جدد إلى عالم السياسة و مناوراتها الماكرة لا يخضعون لقواعد اللعبة القديمة،  بل يريدون بناء منظومة جديدة على أنقاض ما كان سائدا، و قد التقوا في هذا التوجه مع المنشقين عن النشطاء و الذئاب الهرمة . و هنا حصل المحظور،  و بهت  الذي كفر، و تساءلت النخب التي تمت ازاحتها في  غضب : من أنتم؟  

و لم يشأ البناؤون الجدد أن يدخلوا في جدل لا يتقنونه ، بل اختاروا تغيير قواعد اللعبة عبر كسر الأساليب المعهودة ، و تجاهل الخطاب القديم الذي يجعل من الاتحاد العام التونسي للشغل طرفا أولا في تسيير الشأن العام. وتم اعتماد تأويل مستجد للعلاقة القانونية بين السلطة السياسية و المنظمة النقابية على أساس المهام التي يضبطها القانون، و باعتبار أن المسؤولية السياسية يتحملها المنتخبون وحدهم في حين يقتصر العمل النقابي على الدفاع عن مصالح المنخرطين لا غير.

و نتيجة لذلك سرت البرودة و وأحيانا الصقيع في شرايين العلاقات بين الهياكل النقابية و الهياكل السياسية، و ظهرت علامات التوتر و سوء الفهم و بلغت أحيانا  المحاكمات و الإيقافات باسم تطبيق القانون لا غير. ووجد اتحاد الشغل نفسه في وضعية لم يألفها سابقا و ما زال  لم يستسغها و لا يقبل بها،  كما أنه لم يغادر الخطاب الذي ورثه عن مدرسة حشاد الذي يمجده الطرفان… فكيف الخروج من سوء الفهم هذا؟ 

درس الخلاف بجرأة وواقعية على وقع  المتغيرات

لا شك في أن الحلول ممكنة، و لا شك في أن الاتحاد وريث مسار نضالي طويل، و لا شك في أن السلطة تدرك ذلك جيدا خصوصا وأن  نقابيين بارزين انحازوا لرؤيتها و تأويلاتها، و لكن هل حاولت المنظمة الشغيلة درس الخلاف بجرأة وواقعية على وقع  المتغيرات التي هبت بقوة على العلاقة بين العمل النقابي و السلطة السياسية؟ و هل استخلصت المنظمة الدروس المرجوة من تجارب الماضي و تجارب البلدان الأخرى؟ و هل حافظت المنظمة على تماسكها الداخلي و جددت الخطاب و الأساليب؟ و هل أخذت لنفسها فسحة لقراءة نقدية متأنية؟ أم أن التعلق بالتقاليد غلب على ضرورة التجديد و الابتكار و التجاوز؟

و من جانبها اختارت السلطة المرور بقوة و إعتماد المواجهة الصامتة بديلا عن الحوار و البحث عن مساحات التفاهم و الشراكة. و ربما اعتقدت ان صفحة تقاسم السلطة قد طويت أو هي تبدلت تبديلا و ذهبت مع النخب القديمة بلا رجعة.  

و ها هما الطرفان يحييان ذكرى استشهاد فرحات حشاد بغض النظر عما يدور في خلديهما و كأن الهدوء الظاهري يسبق شيئا ما سيحدث لامحالة في يوم من الأيام. و هاهي النقابات العالمية  العريقة في النضال تستنبط الحلول لتأزم علاقاتها مع سلط سياسية من نمط جديد دون تردد و لا شعور بالذنب و ترفض أن تلعب  دور الحرس القديم…

و منذ الأمس فقط يعتصم آلاف العمال في شركات صناعة السيارات بألمانيا رفضا للتخفيض في رواتبهم بنسبة عشرة بالمائة. نعم ، للمطالبة بديمومة الشغل و الأجرة!! و في فرنسا واجهت الكنفدرالية العامة للشغل مناورات السلطة السياسية بالابتعاد عنها و افتكاك مساحة سلطتها في الميدان الاجتماعي… فهل هم خارج المشاركة في الشأن العام؟ أم أنهم يمسكون ذلك الشأن من رقبته و يضعون السلطة السياسية في مأزق… و عندما كتب حشاد ” أحبك يا شعب ” لم يكن يواجه من يرفع شعار “الشعب يريد”.  

أستاذ جامعي و باحث.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.