انطباعات عن ثورات التونسيين : من يقوم بها، أين تندلع، و لماذا؟       

تعيش تونس هذه الأيام ذكرى الانتفاضة العارمة التي اندلعت في 17 ديسمبر 2010 و انتهت يوم 14 جانفي 2011 بسقوط النظام السياسي القائم و الدخول في مرحلة إرهاصات طويلة لبناء نظام جديد. و تكتسب تلك الأحداث خصائص رافقت حركات احتجاجية قوية مماثلة عبر تاريخ البلاد مما يدفع إلى جدية البحث عن ملامح التواصل و الانقطاع  في الحركات الاحتجاجية  للسكان الأصليين الذين أصبحوا يسمون اليوم تونسيين سواء للمطالبة بالحرية أو العدالة، أو رفضا للتسلط و الظلم. 

سعيد بحيرة      

و حتى لا نضيع في التفاصيل التي يسكنها الشيطان فإننا سنأخذ أمثلة ل “ثورات” في أهم الحقب التاريخية : واحدة في عهد قرطاج البونيقية، و أخرى في عهد الاحتلال الروماني، و ثورة على حكم البايات، و اثنتان ضد الدولة الوطنية. 

و الجدير بالذكر ان أغلب الباحثين في تاريخ تونس لا يعيرون اهتماما  كبيرا لظاهرة المقاومة و الثورة و الاحتجاج لدى التونسيين حتى ترسخ الانطباع بأنهم قوم مسالمين بل  طيعين  يتأقلمون مع أسوأ الأوضاع، و هي ليست خصلة تستحق التنويه بقدرما هي نقطة ضعف و خنوع لا تمت للواقع بصلة. و سنرى كيف أن الوقائع تفند هذه القراءة، و كيف أن التونسيين على غرار كل الشعوب يأبون الضيم و يرفضون القيود حتى و إن أظهروا الصبر و التأني. و هذه خاصية الإنسان الذي يولد حرا، و يتشوف للعدل، و يعمل على صون حريته و إن بأشكال مختلفة. و للشعوب عبقرية خصوصية تصيغها الجغرافيا و يلهمها التاريخ و العيش المشترك طيلة الزمن الطويل فتستنبط الأساليب، و تبتكر الوسائل التي تناسبها لكنها لا تقلل من شأنها و لا تسمح باستنقاصها. و يستحضرني في هذا السياق تعليق رئيس دولة شقيقة له نفس ثوري قال سنة 2011 “أن التونسيين لا يقومون بالثورات، و هم دجاجات مبللة”، ومعناها أنهم جبناء و عديمو الإقدام… و كذبته الأحداث عندما كاد الإلهام التونسي أن  يعصف بنظام بلده الشقيق.  

ثورة شعبية عارمة في العهد القرطاجي

و ترجع أولى الثورات للأهالي سكان هذه البلاد إلى عهد قرطاج، و يقول عنها  المؤرخ الحبيب البقلوطي في مقاله عن “دور اللوبيين في حرب المرتزقة او حرب اللاهوادة سنة 238  قبل الميلاد” أن تلك الحرب أو الثورة “تندرج في إطار التاريخ العام للفئات الشعبية في علاقتها بالسلطة المركزية القائمة. و إن شاع القول بأن تلك الحرب كانت تمثل احتجاجات مرتزقة جيش قرطاج على عدم الحصول على مستحقاتهم فإن المتمعن يكتشف الحضور المكثف للعنصر اللوبي الشعبي، فهي في الواقع انتفاضة و ثورة شعبية عارمة… و هي بعيدة كل البعد عما وصفت به من همجية ووحشية و فوضى.” 

 و لا يمكننا في هذا المقام إلا أن ننوه باجتهاد مؤرخنا و موضوعيته لإبراز الحقيقة و إنصاف سكان البلاد أمام بعض كتابات المنتصرين الناظرين من فوق للأهالي و حركاتهم. و”لئن كان القادح المباشر للحرب هو مطالبة المرتزقة برواتبهم التي تأخرت فإن السبب العميق يتمثل في غضب الأهالي على سياسة سلطة قرطاج الجبائية، و لذلك رفعوا شعار الحرية و التحر. و قد كانت الضيعات الفلاحية الكبرى أملاكا خاصة للأرستقراطية القرطاجية الممثلة للأوليقارشية الحاكمة… و كانت الجباية تتأتى أساسا من لوبيا و اللوبيين و هي التي تشكل موارد الدولة بينما كانت المدينة الارستقراطية متشبثة بامتيازاتها و تعيش على هامش لوبيا … وانطلق الجيش المتمرد في عشرين ألف مقاتل من سيكا (الكاف) إلى تونس قبالة قرطاج بدون أن يلحق أذى بالأرض اللوبية طوال المسافة التي قطعها و كان يتألف في سواده الأعظم من اللوبيين… ووضعية العبودية لم تكن بعيدة عن وضعية اللوبيين خاصة منهم صغار الفلاحين من أهل الريف… و قد شدد القرطاجيون في معاملتهم لشعوب لوبيا فرفعوا الجباية إلى نصف المحاصيل و ضاعفوا قيمة الضرائب المستحقة على المدن… و لم يكن الرجال في حاجة إلى من يحرضهم على الثورة بل كان يكفيهم لذلك مجرد إشارة… و يبدو أن علاقة الدولة القرطاجية مع رعاياها اللوبيين كانت إلى أواسط القرن الثالث قبل الميلاد علاقة استبدادية اقصائية… و يرجح أن قرطاج أبقت في المجال الفلاحي اللوبي على علاقة جبائية بحتة … و من تلك الأراضي اللوبية، و من تلك الأودية و السهولة المرتفعات، و من تلك الأرياف و القرى و المراكز الحضرية، هب اللوبيون رعايا دولة قرطاج ليثوروا على وضع جبائي مرهق، و على سياسة انتقائية اقصائية.”  

و في المحصلة فإن انتفاضة اللوبيين أجدادنا البعيدين انطلقت من الكاف و عبرت الشمال الغربي ثم انتشرت إلى تونس و الوطن القبلي و الساحل،  و كانت عفوية تترجم عن شعور بالتهميش و الاستغلال و الجحود من قبل” المدينة-الدولة ” المحتكرة للرفاه في استعلاء. 

ثورة يوغرطة على الاحتلال الروماني

 و سنجد هذه الملامح و العوامل في جل الثورات التي ستأتي لاحقا. و أبرزها على الاطلاق الثورة ضد الاحتلال الروماني و التي قادها يوغرطة ملك النوميديين و كتب فصولها المؤرخ و رجل السياسة الروماني سالوست، و قال عنها بأنها “كانت كبيرة وفظيعة و النصر فيها كان محل شك، و كانت المرة الأولى التي وقعت فيها مواجهة غطرسة النبلاء بالقوة”. ومما يثير الانتباه أن جل المعارك دارت رحاها في الفضاء الذي نسميه اليوم تونس بحيث انطلقت المواجهة في باجة عندما “ذهب يوغرطة إلى جميع الفرق و السرايا كل على حدة و حرض جنوده و حثهم ألا ينسوا شجاعتهم الحربية القديمة و انتصاراتهم، و أن يدافعوا عن أنفسهم ووطنهم ضد أطماع الرومان، كما قال لهم أنهم يحاربون أناسا سبق لهم أن انتصروا عليهم…”. 

 و قد تكررت هذه المواجهات مع الغزاة عبر القرون اللاحقة.  

و دارت المعركة الثانية في زاما قرب سليانة و فيها أهم حصن ملكي نوميدي، و “كان سكانها هجوميين و تصدوا للرومان بقذف الحجارة و القذائف المشتعلة و كذلك السهام”. ثم دارت معركة سيكا (الكاف)، و معركة تالة “وهي مدينة ثرية و كبيرة لم تدخلها الجيوش الرومانية إلا بعد حصار دام أربعين يوما”. و شهدت قفصة آخر المعارك الكبيرة “وهي مدينة عظيمة في عمق الصحراء و كان مواطنوها خاضعين ليوغرطة و معفيين من دفع الضرائب، و كانوا مخلصين له”. و لم تتم السيطرة عليها إلا بالحيلة فتم “حرق المدينة و قتل النوميديون البالغين و بيع الآخرين، ووزعت الغنائم على الجنود.” و بعد ذلك تحصن يوغرطة بجيشه في ما يعرف اليوم بمائدة يوغرطة وهو موقع منيع يستحق أن تعرفه الأجيال الجديدة، و لم تنهزم مقاومة الاحتلال الروماني إلا بفعل الخيانات الداخلية… و ما أكثرها من ذوي القربى. 

و يمكن القول بأن الثورة على قرطاج و الثورة على روما انطلقتا من دواخل البلاد، و فيهما جانب عفوي، و أغلب المحتجين من الفئات الشعبية التي لم تعد تتحمل سياسات الاحتلال و التهميش و الاعتصار الجبائي و الاستغلال الوحشي.

تلك هي ملامح ثورات التونسيين الهيكلية على مر العصور، و هي لا تندلع إلا إذا بلغ السيل الزبى، و هي تفتح أبواب التغيير فيتسلل منها الانتهازيون و المتربصون  لقطف ثمار الثورة.  

ثورة علي بن غذاهم على نظام البايليك

و سنجد نفس الخاصيات تطبع ثورة علي بن غذاهم سنة 1864، و التي كانت عند انطلاقها رفضا لمضاعفة ضريبة المجبى التي يدفعها “الرعايا”. و كانت في العمق و بصفة عامة احتجاجا على سياسة نظام البايليك، و تسلط المماليك الماسكين بمواقع القهر و القرار، كما كانت انتفاضة الأهالي ضد استغلالهم و الإمعان في تفقيرهم، و هم الذين قال عنهم إبن أبي الضياف أنهم كانوا يفترشون الأرض و يلتحفون السماء. و انطلقت تلك الثورة من جهات القصرين و القيروان و الكاف و قفصة ثم بلغت الساحل و كادت تذهب بحكم البايات، و مع ذلك لا تحتل دراسة هذه الثورة الشعبية المكانة التي تستحقها في كتب التاريخ. و مرة أخرى تستعمل السلطة أسلوب فرق تسد بين القبائل، و تخادع قائد الثورة لتوقع به، و تقوم بحملة عقوبات فردية و جماعية وحشية بقيت ذكراها السيئة عالقة في أذهان الأهالي عقودا طويلة.  

و في النهاية فإن الظلم مؤذن بالخراب، و دافع لاستنفار قيم الحق و العدل و الحرية حتى و إن انخرمت موازين القوة بين الشعوب و حكامها. و في كل الانتفاضات التي ذكرناها حقق الأهالي مكاسب هامة لم تكن دائما مباشرة لكنها أوقفت تيار الجور و فسحت المجال لاسترجاع الكرامة المهدورة، و برهنت على حيوية ذاتية كامنة هي صمام الأمان ضد الإهانة.  

من ثورة الخبز إلى ثورة الحرية

و لم يخلو زمن دولة الاستقلال من هزات مماثلة أرسلت تحذيرات صارمة للقيادات الوطنية حتى لا تقع في المحظور، و حتى تذكرها  بضوابط  العقد الذي يربط الدولة بمواطنيها، و مسكين هو الحاكم الذي لا يعرف تاريخ بلاده و مهجة شعبه ! 

و تقتضي الأمانة أن نعترف للزعيم الحبيب بورقيبة بقراءاته الصائبة لتاريخ تونس مما بوأه القيادة و منحه الثقة لمدة طويلة، و لكن الشيخوخة غرق كما يقال، و تلك قصة أخرى و غفلة الحكم الذي يظل عقيما مهما ترشد و استقام، و مهما كانت مشروعيته.  

و لعل ما سمي “ثورة الخبز” يشكل الشرخ الأخطر في حكم بورقيبة لأنه استنفر أغلبية الشعب، وشمل كل جهات البلاد، و تعلق بعيش الناس، و تسبب في قتل عشرات المحتجين. و مرة أخرى يعيد الشعب للأذهان بأنه صاحب الكلمة الفصل و القول الأخير. و إذا كانت النخب تتحرك على المدى الطويل لتحدث التغييرات فإن الجماهير الشعبية تستبطن التحولات و تلتجأ إلى حدسها الذي تبلور عبر عشرات القرون و المحن.  

و بعد ثلاثة عقود من الحكم انتفض التونسيون ليقولوا لا للمس بمقومات العيش الكريم. و في يوم 29 ديسمبر سنة 1983 خرج سكان مدينة دوز ليرفضوا الزيادة في سعر السميد و العجين اللذان يشكلان أساس الغذاء الشعبي، ثم انتشر الاحتجاج ليصل إلى مدينة قبلي ثم مدينة سوق الأحد يوم 31 ديسمبر حيث سقط عشرة جرحى، و في غرة جانفي 1984 تظاهر الناس في قفصة و تلتها غالبية مناطق الجمهورية، و هاجم المحتجون مظاهر الثراء الفاحش و مؤسسات الدولة، و كادت أن تحصل القطيعة لولا تراجع رئيس الدولة عن الزيادات يوم 4 جانفي 1984، و لعله تذكر متأخرا بعض عبر الأحداث البعيدة في تاريخ تونس. 

و عندما أخذ زين العابدين بن علي الحكم بعد ثلاث سنوات من تلك الأحداث الدامية و تحدث عن طول شيخوخة بورقيبة أوحى للشعب بأنه سيغادر الحكم قبل بلوغ أرذل العمر، و كان عليه استخلاص الدرس مما جرى أمام عينيه و شارك هو في إدارته، لكن العقم سرى في أوصال مشروعه فوقع في المحظور. و تتالت العهدات الرئاسية، و برزت مظاهر إثراء مشبوه و مستفز، و انفتحت شراهة العائلة للثروة و حتى الحكم، و طمع في السلطة الأميون و المتسلقون و الوافدون على عالم السياسة، و تقلصت الطبقة الوسطى لتلتحق بالجماهير الشعبية، و شعر الناس بازدراء السلطة و استخفافها بهم فكانوا مثل النوميديين سنة 238 قبل الميلاد ليسوا في حاجة  لقائد يحرضهم على الثورة… بل كان يكفي ان يقدح قادح بسيط ليلهب مشاعر الغضب … وجاء بائع الخضروات المتجول ليطيح بصانع التحول كما قال المؤرخ الهادي التيمومي…و انطلقت الاحتجاجات كما كانت دائما من الدواخل… من سيدي بوزيد و جارتها القصرين، ثم امتدت إلى  كل الجهات مدنا و أريافا و قرى… و هو برهان قوي على الاستمرارية و التواصل في الشخصية التونسية القاعدية.

  باحث جامعي.

 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.