مراد بوكرزازة : شاعر الرواية البوليسية في الجزائر

في مدينة قسنطينة، حيث يهمس التاريخ عبر الجسور المعلقة والقصص العتيقة التي تسكن كل زاوية، بزغ نجم مراد بوكرزازة كواحد من أبرز الأصوات الأدبية في الجزائر. ليس مجرد كاتب، بل حالم يمزج غموض الرواية البوليسية بسحر الكلمة الشعرية، ليخلق عوالم تتقاطع فيها الحقيقة والخيال، المكان والإنسان، الحلم والجراح.

جمال قتالة

قسنطينة، المدينة التي تنبض بتاريخها وأسرارها، ليست مجرد خلفية في أعمال بوكرزازة، بل هي شخصية حية تتنفس بين السطور. من أزقة “الرصيف” الضيقة، إلى ظلال “سيدي جليس”، ينسج بوكرزازة رواياته كمن يرسم لوحة تتلاقى فيها الغموض بالحنين، حيث تصبح الجريمة مرآة تكشف خبايا النفس البشرية.

في رواياته مثل “صدقي الذي قتلني” و “ليريكا”، لا تقتصر الحكاية على مطاردة الجاني أو حل لغز الجريمة، بل تغوص عميقًا في الروح الإنسانية. شخصياته ليست مجرد أسماء أو أدوار، بل أرواح مثقلة بالأسئلة والندوب، تبحث عن الخلاص وسط عتمة الخطايا. الجريمة هنا ليست حدثًا عابرًا، بل نافذة تطل منها قضايا اجتماعية وهموم إنسانية بأبعادها المتناقضة.

الرواية البوليسية كفلسفة للحياة

لغة بوكرزازة ليست مجرد أداة سرد، بل نسيج فني من الصور الشعرية التي تضفي على رواياته طابعًا فريدًا. كلماته تنساب كأنها موسيقى حزينة، تلامس القارئ وتأخذه في رحلة تتجاوز حدود الزمان والمكان. في كتاباته، ينبض صوت دفين يحمل وجع قسنطينة وأحلامها، أسرارها وجمالها، ليجعل من المكان جزءًا لا يتجزأ من الحكاية.

في أدب بوكرزازة، الجريمة ليست مجرد حبكة درامية؛ إنها عدسة يكشف من خلالها عيوب المجتمع وتشوهاته. يدعو القارئ في كل سطر للتأمل في النفس البشرية وشهواتها وأحزانها وأوهامها. بالنسبة له، الأدب البوليسي ليس وسيلة للتشويق فقط، بل مساحة للتفكير العميق، أداة لفتح الأبواب المغلقة في أعماق الإنسان.

لم يكن طريق بوكرزازة مفروشًا بالورود. في بلد يعاني من تراجع القراءة وتهميش الأدب، واجه صعوبات النشر والتوزيع، مما اضطره لأن يصبح مدافعًا عن أعماله بنفسه. لكنه، ككاتب يحمل حلمًا كبيرًا، لم يستسلم. بل جعل من كلماته سلاحًا، ومن رواياته أفقًا مفتوحًا نحو مستقبل مشرق لهذا النوع الأدبي في الجزائر والعالم العربي.

شاعر الجريمة وصانع الحلم

مراد بوكرزازة ليس مجرد كاتب بوليسي، بل هو شاعر الحكاية الإنسانية وصانع عوالم تجمع بين ألم الواقع وسحر الخيال. من خلال أعماله، يخلق فضاءً أدبيًا يمزج بين المحلي والعالمي، بين الغموض والجمال. ومع كل رواية جديدة، يثبت أنه صوت مميز، قادر على جعل الرواية البوليسية أغنية تحكي عن النفس والمكان والزمان.

إنه كاتب يحمل في كلماته مدينة بأكملها، بأحلامها وأسرارها، ويمنحها حياة جديدة في قلب القارئ. مراد بوكرزازة هو ذلك الصوت الذي ينساب برقة وثقة، ليبقى محفورًا في ذاكرة الأدب الجزائري والعربي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.