أحد أهم الأسلحة التي تستخدمها القوى الغربية للتدخل في شؤون دول العالم الثالث هو ذريعة حقوق الإنسان والحريات. فلماذا نمنحها هذا السلاح بأيدينا؟ على السلطات في تونس أن تضمن الحريات وتحترم الحقوق، ليس فقط لحماية صورتها أمام العالم، ولكن أيضًا لتقوية جبهتها الداخلية في وجه أي تهديد خارجي.
نضال بالشريفة
شهدت سوريا في الأسابيع الأخيرة انهيارًا مفاجئًا لنظام الرئيس بشار الأسد، وهو ما أثار دهشة الجميع. فالنظام الذي قاوم لأكثر من عقد من الزمن في حرب أهلية دامية، خلّفت مئات الآلاف من القتلى وملايين المهجّرين، سقط في غضون أيام دون أي مقاومة تُذكر. بدا الأمر وكأنه مشهد درامي، لكنه كان واقعًا قاسيًا نعيشه. فهم هذا السقوط قد يساعدنا في تونس على تجنّب تكرار السيناريو ذاته… و إن كانت المقارنة بين النظامين القائمين في البلدين و تاريخهما الحديث يختلفان كثيرا.
لا شك أن الشعب السوري عانى من ويلات نظام استبدادي ارتكب مجازر وجرائم، وأدى إلى انهيار الاقتصاد وتدهور الظروف المعيشية. وحتى الموالون للنظام لم يسلموا من هذا الوضع. وعندما حانت لحظة التغيير، اصطف السوريون خلفها، رغم أن بصمات التدخلات الأجنبية، وخاصة التركية، كانت واضحة.
اليوم، وبعد سقوط النظام، خسرت سوريا كل شيء تقريبًا: جيشها مدمّر، اقتصادها منهار، ونسيجها الاجتماعي ممزق. فهل كان بالإمكان تجنّب هذا المصير؟ ربما لم يكن ذلك سهلًا، فقد كانت سوريا مستهدفة لقيمتها الجيوسياسية. استهدفت سوريا أوّلا لموقعها الإستراتيجي المتواجد في قلب الشرق الأوسط، وثانيا لكونها ضمن المحور الإيراني المعادي للمصالح الغربية بالمنطقة، وثالثا لكون تركيا اليوم تقاد بعقلية نيوكلونيالية هدفها إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية التي يكون فيها الأتراك هم الأسياد والبقية (بما فيهم العرب) خدما لهم.
“المتغطي بمتاع الناس عريان.”
اعتمد النظام السوري بشكل مفرط على الدعم الأجنبي الإيراني والروسي للبقاء على قيد الحياة، متجاهلًا أن الركيزة الأساسية لأي حكم مستقر هي الدعم الداخلي، ودعم الشعب وقواه الحيّة. فبدون جبهة داخلية قوية ومتماسكة، يصبح النظام عُرضة للاختراق من قبل القوى الأجنبية، حتى تلك التي تدّعي أنها حليفة. فهذه القوى تعمل وفق حسابات مصالحها، وما إن تصبح تكلفة دعمك أعلى من المنافع التي تجنيها منك، فإنها ستتخلى عنك بلا تردد، كما يقال: “المتغطي بمتاع الناس عريان.”
كان على نظام الأسد أن يستغل فترة الهدوء النسبي التي عاشتها سوريا في عام 2017 لبدء عملية مصالحة سياسية شاملة. كان بإمكانه إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، تحسين سجل النظام الحقوقي، والسماح بمعارضة حقيقية تعبر عن تطلعات الشعب. كذلك، كان بإمكانه فتح قنوات حوار مع الأكراد والعمل على تعزيز وحدة الصف الداخلي، مما يجعل الجبهة الداخلية منيعة أمام الاختراقات الخارجية.
لكن النظام استمر في تعنّته، واهمًا بأنه حقق النصر وضَمِن بقاءه في السلطة دون الحاجة لأي إصلاحات داخلية. وكان هذا خطأً قاتلا. فعندما تخلى الحلفاء الإيرانيون والروس عنه، سقطت المدن السورية الواحدة تلو الأخرى في أيدي الميليشيات المدعومة من تركيا. وجد النظام نفسه بلا حماية، وحتى أنصاره تخلّوا عنه.
اليوم، سوريا بلد ممزق، يُحكم جزء منها من قبل الإسرائيليين، وآخر تحت سيطرة الأتراك، بينما تتنازع بقية المناطق ميليشيات ذات مصالح متباينة. هذا الواقع كان بالإمكان تجنّبه لو أن النظام استثمر في بناء قاعدة شعبية داخلية قوية بدلاً من الاتكال الأعمى على الدعم الخارجي.
كيف يمكننا كتونسيين أن نتعلم من الدرس السوري ونتجنب مصيرًا مشابهًا؟
لا شك أن الوضع في تونس يختلف جذريًا عن سوريا، فبلدنا، والحمد لله، لا يعيش حربًا أهلية، ومن المستبعد أن يلجأ التونسيون إلى حمل السلاح ضد بعضهم البعض. ومع ذلك، ما يحدث اليوم في تونس يشبه إلى حد ما ما حدث في سوريا من حيث إضعاف الجبهة الداخلية، التي تشكل خط الدفاع الأول ضد أي أطماع خارجية.
واهمٌ من يعتقد أن تونس بمنأى عن تلك الأطماع، سواء كانت من الأوروبيين، الأتراك، أو حتى من بعض الدول المجاورة. إن السياسات القمعية ضد المعارضة الوطنية تُضعف مناعة البلاد الداخلية، وتقلل من قدرة ورغبة الأطراف السياسية في الدفاع عن سيادة تونس ومصالحها أمام التدخلات الخارجية.
على السلطة الحالية أن تدرك أن استمرارها في النهج الأحادي قد يُلحق أضرارًا جسيمة بالبلاد، خاصة على صعيد ضرب معنويات قطاعات واسعة من الشعب التي لا تجد نفسها ممثلة في السلطة الحالية، وتميل أكثر إلى بعض قوى المعارضة.
ما يجب فعله بشكل عاجل هو تفادي وضع كل أطياف المعارضة في سلة واحدة. على سبيل المثال، الحزب الدستوري الحر، وزعيمته عبير موسي، ليسا متورطين في الإرهاب أو الفساد أو الولاءات الأجنبية. القضايا التي تحاكم بناءً عليها هي في الأساس سياسية، مرتبطة بتصريحات تمثل حقًا مشروعًا لكل مواطن في التعبير عن رأيه. الإفراج عن عبير موسي، والسماح لها بممارسة حقوقها السياسية، سيعيد الحيوية إلى المشهد السياسي. كما سيمنح مئات الآلاف من التونسيين المؤمنين بأطروحاتها فرصة للمشاركة في الحياة السياسية. هؤلاء، حتى وإن اختلفوا مع السلطة الحالية، سيكونون من أول المدافعين عن سيادة تونس في وجه أي تدخل أجنبي.
إقصاء المعارضة وهرسلتها ليس حلًا، بل على العكس، إشراكها يعزز الاستقرار ويمنح الجميع الشعور بأنهم جزء من العملية السياسية، لا مجرد أطراف على هامشها.
ولا ننسى أن أحد أهم الأسلحة التي تستخدمها القوى الغربية للتدخل في شؤون دول العالم الثالث هو ذريعة حقوق الإنسان والحريات. فلماذا نمنحهم هذا السلاح بأيدينا؟ على السلطات أن تضمن الحريات وتحترم الحقوق، ليس فقط لحماية صورتها أمام العالم، ولكن أيضًا لتقوية جبهتها الداخلية في وجه أي تهديد خارجي.
خريج كلية العلوم القانونية والسياسية بتونس
شارك رأيك