التظاهرات الثقافية والفنية في تونس: نحو عدالة دائمة في توزيع الدعم العمومي

صالح سويسي

بعد اجتماع أمس الذي أشرفت عليه وزيرة الشؤون الثقافية والذي خُصِّصَ لتنظيم المهرجانات وتصنيفها حسب الخصوصيات، ومخرجاته التي تمثّل مبادرة طيّبة في سياق إعادة النظر في واقع المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية في بلادنا، الشيء الذي لطالما طالبنا به، أودُّ أن أضيف توصيفا لواقع تلك التظاهرات وتقديم جملة من المقترحات أرجو أن تلقى الآذان الصاغية، خاصة وأنها تصبُّ في سياق دعم هذه التظاهرات وترشيدها.

بقدر ما كان العام الماضي (2024) حافلا بالأنشطة والتظاهرات والفعاليات الثقافية وخاصة في الجهات، بقدر ما لم يبقَ في ذهن المواطن إلا تظاهرات العاصمة والتي أسمّيها منذ سنوات “مهرجانات الفترينة” أو مهرجانات “وجه البلاد” فيما مهما عَلَا شأن الفعاليات التي تنتظم خارج أسوار العاصمة تبقى مجرد تظاهرات “على الهامش” من حيث الدعم والاهتمام الإعلامي.

ولست هنا بصدد الحديث عن التظاهرات الكبرى في العاصمة لأنها تنال حقها وأكثر على امتداد العام، لكن تركيزي سيكون كما تعوّدتُ دائما عن الثقافة وأهلها في الجهات.

جهدٌ يومي رغم العوائق

في كل ولايات الجمهورية ثمة من يعمل باجتهاد كبير من أجل المساهمة في مشهد ثقافي وطني متعدد ومتنوع.

وفي كل مؤسسات العمل الثقافي والمكتبات العمومية ومراكز الفنون الدرامية التي تتبع إداريا وزارة الشؤون الثقافية منشطون ومسؤولون يجتهدون ويعملون بشكل متواصل لصنع أحداث ثقافية بشكل يكاد يكون يوميّا، ويُنظمون تظاهرات متنوعة محليا، جهويا ووطنيا، بل إنّ كثيرا منها يحمل البعد الدولي رغم محدودية الإمكانيات المالية وتعقيد الإجراءات أحيانا ومع ذلك مازال ثمّة من يحاول ويسعى بل ويؤسس لتظاهرات جديدة بأفكار مُبتكرة وتصوّرات تستجيب لانتظارات الأجيال الجديدة.

مهرجان قرطاج الدولي: الشجرة التي تُخفي الغابة

وفي نفس السياق، وبالتوازي مع المرافق العمومية، نجد جمعيات تعمل دون كلَلٍ أو مَلَلٍ على توفير منتوج ثقافي متميز وتؤسس لفعل ثقافي فيه ابتكار وتجديد، وثمّة جمعيات تشتغل على التكوين في المجال الثقافي بكل تفاصيله وجزئياته، لتكوّن أطفالا وشبابا في اختصاصات مختلفة، وتخلق أجيالا تتعامل مع الثقافة كمشروع وطني ورسالة إنسانية.

لكنّ ما يبعث على القلق دائما هو ذات المشكل القديم المتجدّد، وهو الدعم المالي.

وبما أنّ المال قوّام الأعمال وأمام شُحّ الدعم العمومي وانعدامه أحيانا تبحث بعض الجمعيات عن موارد أخرى بالتعاون مع منظمات تونسية أو أجنبية تدعم العمل الثقافي، أو تتبع طرقا مستحدثة في إطار التمويل الذاتي رغم الصعوبات والعراقيل.

وفي زحمة التظاهرات، نجد فعاليات عادية وأخرى نوعية وذات خصوصية وتقدم الإضافة للمشهد الثقافي بشكل عام، وهو تنوّع محمودٌ عُمُوما يُحيل إلى حراك ثقافي متواصل.

المهرجانات الصيفية: تعددت الأسماء والنتيجة واحدة

وبما أنّ الثقافة ليست مناسبات للترفيه فقط كما يعتقد البعض، بل هي ركيزة هامة في بناء أي مجتمع سليم ومتوازن، بات من الضروري إعادة النظر في كثير من المسلّمات التي تُحرّك “ماكينة” الثقافة في بلادنا وإعادة ترتيب الأولويات والتفكير في الفعل الثقافي على أنّه مُنتَجٌ يدخل تحت سقف قاعدة العرض والطلب.

في تونس، لدينا تخمة من التظاهرات الثقافية وهذا مؤشر إيجابي وظاهرة صحية ظاهريا، لكنّه يُخفي أسئلة كثيرة تبحث عن إجابات من القائمين على الشأن الثقافي في بلادنا.

ففي فصل الصيف مثلا تُقام مئات المهرجانات المتشابهة والمستنسخة أحيانا، وسبق أن اقترحنا في مقال سابق ضرورة تقليص عدد المهرجانات الصيفية والتركيز على خصوصية كل منطقة والانطلاق من المحلّي لصنع التميّز والتفرّد، مع عدم حرمان المواطن أين ما كان من حقّه في الثقافة.

نحن اليوم في حاجة أكيدة للاهتمام والتركيز على التظاهرات النوعية والتي تحمل في مضامينها تجديدا وخصوصية وذلك ضمانا للجدوى، وفي النهاية وكما أسلفنا سابقا فالفعل الثقافي “مُنتَج” لابد أن يُراعي قاعدة العرض والطلب، فإذا غابت الجدوى عن هذه التظاهرة أو هذا المهرجان فما الفائدة من تنظيمه واستنزاف المال والجهد والوقت؟

نحو توزيع عادل للدعم العمومي

تزخر بلادنا بتظاهرات هامّة ونوعيّة خارج أسوار العاصمة، وتستحق أن تكون في صدارة اهتمام وزارة الشؤون الثقافية، بل ومن أولوياتها، ويمكن أن نستحضر بعضها على سبيل المثال: مهرجان سوسة الدولي لفيلم الطفولة والشباب أول مهرجان من نوعه عربيا وإفريقيا، مهرجان نيابوليس لمسرح الطفل بنابل، المهرجان الدولي للسينما في الصحراء وهو مهرجان وُلد كبيرا ومعه أسباب نجاحه، مهرجان فنون الشارع بقصرهلال وهو مهرجان فريد من نوعه، المهرجان الدولي للشعر بتوزر بتاريخه الكبير، مهرجان الجواد العربي الأصيل بالمكناسي بخصوصيته، والقائمة طويلة.

ومن الضروري اليوم، أن يفكّر أصحاب القرار “خارج الصندوق”، ومع الزيادة في ميزانية وزارة الشؤون الثقافية ولو أنها زيادة بسيطة جدا، يجب إعادة النظر في التوزيع العادل لدعم التظاهرات الكبرى، وخاصة التي تنتظم خارج أسوار العاصمة.

الحديث عن العدالة والمساواة، يُحيلنا مباشرة للحديث عن ضرورة القطع مع المركزية التي كانت ومازالت سببا في قتل عديد المبادرات الثقافية المميّزة.

وحين نتحدث عن العدالة في توزيع الدعم العمومي، ندعو السيدة وزيرة الشؤون الثقافية إلى ضرورة أن يتحول مهرجان قرطاج الدولي ومهرجان الحمامات الدولي مثلا لجمعيات كسائر المهرجانات الدولية والوطنية في بلادنا، مع ضرورة القطع مع التعيينات وبالتالي تُصبح كل المهرجانات متساوية على كل المستويات.

أعتقد أنه آن الأوان ليكون تعيين هيئات المهرجانات والتظاهرات الكبرى مَبْنِيًّا على مشاريع تتواصل لـ 5 سنوات وحتى أكثر حتى نضمن الاستمرارية والنجاعة.

وهذا ما يجب أن يُعاد النظر فيه في كل التظاهرات الكبرى في تونس، مثل أيام قرطاج السينمائية وأيام قرطاج المسرحية أيام قرطاج الموسيقية وغيرها.

تحقيق العدالة في توزيع الدعم العمومي للأنشطة الثقافية والفنية ليس مجرد مطلب لإنصاف الجهات أمام سطوة المركز، بل هو خطوة ضرورية ومُلحّة نحو بناء مجتمع متوازن ومستدام.

كم أنّ التركيز على الجهات الداخلية وتثمين خصوصياتها الثقافية لن يسهم في تقليص الفجوة بين العاصمة وبقية المناطق فقط، بل سيساهم في إبراز ما تزخر به تونس من تنوع وغِنًى ثقافي وحضاري، قادر على جعل الثقافة ركيزة أساسية للتنمية الشاملة.

فهل سنرى قريبا خطة وطنية شاملة وتشريعات تضمن توزيع الدعم العمومي بشكل عادل على كافة الجهات، مع الأخذ بعين الاعتبار للخصوصيات الثقافية لكل منطقة؟

مركزية التغطية الإعلامية… إلى متى؟

بالمقابل ثمّة نقصٌ كبير على مستوى المواكبة الإعلامية للتظاهرات الثقافية خارج العاصمة، وهذا أمر طبيعي لأن التركيز عادة ما يكون على المركز وهو ما كرّسته الإدارات المتعاقبة لا في الثقافة فقط بل في كل المجالات ما أحدث بونا شاسعا بين العاصمة وبقية جهات البلاد.

وحتى الصفحات الرسمية لوزارة الشؤون الثقافية في مواقع التواصل الاجتماعي تنشر معلقات التظاهرات التي تنتظم في الجهات أو برامجها فقط، ولا توفّر بلاغات ضافية حولها يُمكن استغلالها في الصحف والمواقع الإخبارية وبقية وسائل الإعلام لمزيد تثمين تلك الفعاليات.

وأغلب مواكبات صفحات الوزارة تخص أنشطة الوزيرة والوزارة فقط.

أما صفحات المندوبيات الجهوية للشؤون الثقافية ومؤسسات العمل الثقافي والمكتبات العمومية، فيعمل المشرفون عليها باجتهاد قصد التعريف بالأنشطة التي تنتظم فيها، سواءً من خلال نشر المعلقات والبرامج أو من خلال توثيقها بالصور ومقاطع الفيديو، لكنها تفتقر للمواكبات الإعلامية في أغلبها.

وهنا أقترح أن تضمّ كل مندوبية للشؤون الثقافية نواةً لمكتب إعلام واتصال يقوم بالترويج للتظاهرات والفعاليات ويُنسّق مع وسائل الإعلام، علما أن دور مصلحة الاستقبال والإعلام في المندوبيات يختلف جذريا عن دور مكتب الإعلام أو المكلف بالإعلام.

وفي هذا السياق، يمكن أن تنظم وزارة الشؤون الثقافية دورات تدريبية لمنظوريها في مجالات الاتصال والإعلام واستغلال الذكاء الاصطناعي و”السوشيل ميديا” في تسويق التظاهرات الثقافية والفنية مع الاستعانة بصحفيين مختصين في الشأن الثقافي من خلال عقود مُحدّدةِ المدة والأهداف.

ولا أحد يُنكر أو يجهل أهمية الدور الذي تقوم به مكاتب الإعلام أو المكلّفون بالإعلام، سواءً في التعريف بالأنشطة والتظاهرات، أو تثمينها وتوثيقها.

وعموما لم أشأ اعتماد الأرقام أو البيانات في هذا المقال، حرصا على توفير مساحة أكبر لتشريح الواقع وتقديم الاقتراحات التي من شأنها أن تساهم في النهوض بالشأن الثقافي في بلادنا وهو الهدف الأساسي مما أسلفت.

وفي النهاية، أودُّ أن أسأل السيدة وزيرة الشؤون الثقافية: أين أيّام قرطاج الشعرية؟ أين المعرض الوطني للكتاب التونسي؟ ولنا عودة لكليهما في مقالات مستقلة.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.