بعد أكثر من أربع مائة و خمسين يوما من الحرب الهمجية الإسرائيلية على قطاع غزة جاءت السلم الأمريكية لتفرض اتفاقا لوضع حد لإطلاق النار. نعم… أمريكا نفسها التي شاركت في الحرب و عطلت قرارات مجلس الأمن مرات و مرات. هي نفسها و على لسان رئيسها بايدن توقف الحرب. هذا الرئيس الذي هرع إلى إسرائيل بعد طوفان الأقصى و صرح بأنه صهيوني تماما مثل وزيره للخارجية الذي قال أنه جاء إلى إسرائيل بصفته يهوديا، و ها هو اليوم يقدم حصيلة عمله مفتخرا بدوره في حرب غزة!
سعيد بحيرة
و أكثر من ذلك يتهيأ الرئيس الجديد دونالد ترامب لتسلم الرئاسة يوم الاثنين القادم و قد هدد بأن يعلن القيامة و الجحيم في الشرق الأوسط إن لم تتوقف الحرب و يسرح الأسرى قبل تنصيبه. هو و بايدن يتكلمان لغة الأباطرة الأقوياء مثلما كانت تفعل روما و امبراطورها الذي لا ترد له كلمة، و لذلك بقيت في التاريخ عبارة “باكس رومانا” أي السلم بمنطق الإمبراطورية الرومانية، وعلى شاكلتها نعيش اليوم الباكس أمريكانا بمنطق امبراطوري معاصر، و شعارها اليوم : فرض السلم بالقوة.
يذكرنا ذلك بنهج السياسة الخارجية الأمريكية الذي لم يتغير منذ زمن طويل. ففي سنة 1853 أوفد الرئيس الأمريكي ميللان فيللمور ضابط البحرية ماتيو باري في كوكبة من السفن الحربية إلى امبراطور اليابان محملا برسالة لطيفة و حازمة وضعت في صندوق من خشب الورد الفاخر و المذهب. قرأ ضابط البحرية الرسالة و كانت تتضمن دعوة تشبه الأمر لفتح الحدود اليابانية للتجارة مع أمريكا…
قطعة القماش البيضاء
كان ذلك تطاولا أغضب الامبراطور لكن الضابط الأمريكي قال له تريث أيها الامبراطور فهناك هدية إليكم، و أخرج من الصندوق قطعة قماش بيضاء مطوية بشكل ثلاثي و طرحها أمامه. فقال له الامبراطور: ما هذا؟ و أجابه الضابط بأن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يقول لكم : في صورة رفضكم فتح الحدود للتجارة معنا فإننا سنعلن عليكم الحرب، و عندها يمكنكم رفع هذه القطعة من القماش الأبيض للاستسلام.
فهل تغير منطق السياسة الأمريكية منذ تلك الواقعة التي أقحمت اليابان قسرا في الاقتصاد العالمي الحر و تحت تهديد السلاح؟ لا أظن ذلك خصوصا إذا تذكرنا قرار التقسيم في فلسطين، و تأسيس الحلف الاطلسي، و الحرب الكورية، و حرب فياتنام، و حرب جوان 67، و كامب ديفيد، و غزو لبنان سنة 1982 وصولا إلى الحرب على غزة التي لو أرادت الولايات المتحدة ايقافها لفعلت قبل أن تصبح حرب إبادة فظيعة.
ما أشبه البارحة باليوم !
و مرة أخرى يسود منطق القوة خارج كل القواعد و المعايير الدولية ليأمر الرئيس ترامب بإنهاء الحرب أو الذهاب إلى المجهول و ذلك انسجاما مع مقولة فرض السلم بالقوة. لكن أي السلم يقصد ترامب؟ إنها بلا شك السلم الإبراهيمية التي ابتدعها خلال عهدته الرئاسية السابقة وانبنت على إلحاق هضبة الجولان السورية بإسرائيل، و على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، و على موجة التطبيع التي يراد لها الاستئناف و التوسع بعد حرب غزة. و كل ذلك يمهد لخارطة الشرق الأوسط الجديد مثلما حصل لليابان الجديد سنة 1853 و ما أشبه البارحة باليوم !!
فهل انخرط العرب نهائيا في الخيار الأمريكي مثلما فعلت اليابان التي انحنت و لم تخضع إلا بعد قصفها بأول قنبلة نووية في التاريخ؟ أم أنهم يراوحون مكانهم و يتقدمون متفرقين بلا هدف و لا غاية؟ إنهم يملكون مقدرات و وسائل تمكنهم من التفاوض من موقع حصين لكنهم لم يبلغوا حتى يابان القرن التاسع عشر. و هاهو ترامب يجرهم إلى ما قبل الإسلام ليتبعوا صحف موسى و إبراهيم مقابل ثمن باهض قد يرجع بهم إلى الوراء عقودا و عقودا و يزيد في تشتتهم و خلافاتهم، و ها هي قوى إقليمية متربصة تطرح نفسها لقيادة الشرق الأوسط الجديد باعتبارها منخرطة في الحداثة أو لها مقومات لا يمكن أن يبلغها العرب.
فهل يستفيق العالم العربي ليأخذ بزمام مصيره و لو بتنازلات محسوبة أم أنه سيخطأ الطريق مرة أخرى؟
باحث جامعي و محلل سياسي.
شارك رأيك