حياة القنبري _ باحثة في مجال الفنون _ تونس
علنا لا نجازف حين نعتبر أنّ الفن حياة، الفن ذكرى، قولاً، فعلاً ورؤيا، الفن بين هذا وذاك يُولد ابداعاً أو نتاجاً أو ممارسةً والعمل الفني يُولد تعبيراً وخلقاً، يقول الدكتور محمد زكي العشماوي “الاثر الفني سواء كان تعبيراً ام خلقاً ام ادراكاً، هو نتيجة انعكاس الوجود على ذات الفنان ولما كانت ذات الفنان ليست كاميرا تنقل اليك الشيء المرئي كما هو،فان انعكاس الوجود الخارجي على نفس الشاعر او الكاتب، وانمّا هو في الحقيقة انصهار الموجود خارج الأديب عن طريق التجربة الوجدانية أو الحدسية التي يُعاينها بوجوده الذاتي“[1]والفنان الراهن كثيراً ما يلجأ الى استثمار أفاق جديدة تعطي فنه قيمة فنية وجمالية بدخوله عوالم المغايرة،لنستحضر من رفوف ذاكرتنا تجربة الفنان التشكيلي التونسي”نجيب بوقشة”[2] الذي يستند في إنتاجه التشكيلي المميّز إلى رؤى ذاتية،حيث يسعى جاهداً إلى إرساء طابع جمالي واتخاذ نمط تشكيلي يميزه في المشهد التشكيلي التونسـي. اذ تُعد تجربته انطلاقة فكرية في مجال التشكيل وطرحاً فنياً يوائم متطلبات العصر ويتعدى فصول الأبجديات والنمطية الفولكلورية الخانقة بعد إصراره على إبداع رؤى فنية لونية مغايرة تعكس نبض روحه المبدعة وقدرته وبصيرته النافذة في تطويع اللون المضيء لمعابر الروح من خلال المزج والتناغم بين خاصيات الالوان التي هي بمثابة النّبض داخله. هذا ويُشكّل اللون مفردة أساسية للتعبير عن حراك الوجود، يجعل منه بوقشة مكوناً معلناً في جل لوحاته الفنية وجوهر ابداعه،بحيث تمثل المادة اللونية على حد تعبير رمضان الصباغ “الجوهر العيني للعمل الفني وبدونها يكون العمل الفني هزيلا وخاوياً”..
وهكذا فقد امتلك بوقشة أبجديات اللون الناطـق واللغة الفنية في هذه التجربة الفريدة من خلال إصراره الدائم على الولوج في فسحات اللون الذي يمثل معمار جل أعماله التي تحمل نبضاً تجريدياً خالصاً، متون تكشف عن بعدها الإستيطيقي والجمالي يضع فيها كل ثقله الفني وخبرته بمجال الفن باحثاً عن قيمة التجريد اللوني المطلـق. ومن هذا المنطلق يود الفنان تصوير اللامرئي من خلال ألوان يمزجها على هواه، لتأخذ مساحة من الحرية،فتتحاور تارة وتنساب تارة أخرى على أرضية لوحاته متخذة مسارب القماشة مستقراً لها،وهكذا يذهب الفنان بأدائه الفني الى التلقائية الساحرة والغموض المثير لاكتشاف خبايا اللون الساحر في مقاربة لتجربة الفنان جاكسون بولوك في مواجهة متونه وعلى ما يبدو فان في مجملها أسطح تميزت بقوة ألوانها وبأبعادها الجمالية وبأسلوبها التجريدي المثير لفكر المتلقــــــــي لما تحمله من تناقضات مثيرة تقحمه في دائرة التأمل والتفكير ازاء غليان اللون وسحره الاسر، يجد بها من الغموض المُفرط ما يستدعيه لفك وتفكيك رموزها للإمساك بالفكرة، ويبدو أنّ الفنان من خلال التجريد اللوني أي البحث في خصوصية اللون يحاول التعبير عن هواجسه وأن يبُث تأملاته برؤية جمالية وصياغة أسلوبية مغايرة تفصح عن مكنوناته وجوانيته وتبوحُ بأفكاره وتصوراته وطروحاته وخيالاته أو ربما يأخذنا في فسحات لامتناهية بحثاً عن اللامرئي أي الخوض في عمق الأشياء نحو اللامعقول…
هكذا يصوغ الفنان أعماله التشكيلية برؤية ذاتية تتميز بقوة التعبير الذي يأخذنا إلى أفق إبداعي أوسع تتعانق فيه الألوان التي كثيراً ما تأتي باللامتوقع في دينامية حرة،ساحرة تتوحد المادة اللونية والروح لتخلق بذلك قيم جديدة للجمال… ألوان تنساب برشاقة على السطح التشكيلي فتخلق توليفة لونية تشي بجو مفعم بالتناغم والانسجام بين ألوان أغرق فيها الفنان نفسه،في موج متدفق لانسيابية اللون الساحر المتداعي بين القتامة والشفافية،تأتي لوحاته مذهلة ألوانها تربطها علاقات أكثر حيوية وفاعلية من خلال التداخلات البنائية للون بتضاده ودرجاته(بين تعتيمه وإشراقه) بعد أن منحت فضاءاته تنغيمات توحي بحركة خلاقة في اكتساب تلك العوالم المتعددة والمغايرة،وعلى مايبدو يشكل اللون بانسيابيته التوليفة الأساسية في تجربة بوقشة.
هذا وتقوم أغلب لوحات الفنان على ازدواجية تصنعها تداخلات الألوان وتعدديتها وتناغمها مع بعضها البعض وهو ما يقودنا إلى تتبع اللامرئي في صناعة المعنى، رؤية يصنعها الفنان لولادة معنى جديد ومن جانب آخر إظهار ممكنات اللون بأساليب مبتكرة ومميزة تحقق نوعاً من الجمال اللانهائي والمطلق، فبوقشة هنا شديد التمسك بهاجسه في تجسيد الجمال بتجريد مغامر وبأفكار ورؤية فنية تفتح أفاقاً مغايرةً، حيث لا تخلُو أعماله من مقومات الإبداع وذلك عبر تكثيف إيقاعات اللون وانسيابيته لتتسع الاكتشافات الطريفة ما بين كشف وإيحاء، فتخلق صيغ فنية جديدة تتألف وتتواءم فيها الألوان والخطوط في احتفالية تجريدية تنقل اللوحات نحو أفق معاصر. ويبدو بوقشة في كل ذلك متأثراً بمرجعيات تصويرية كالتجريب، حيث نلحظ إن سمة التجريد قد طبعت جل أعماله من خلال المتجاورات اللونية والخطية التي هي جوهر البناء التشكيلي الإبداعي، فكأنما يتخذ منحى تجريدياً يعكس تأثره الواضح بأسلوب بعض الفنانين (الأسلوب التلقائي العفوي) الذي لا يخضع لأي قواعد ولا يتقيد بأي انطباعات زائفة متحرّر نحو أفق أوسع من الشاعرية والجمال اللونــي.
وعلى هذا النحو يسعى الفنان نجيب بوقشة إلى تأسيس وعي عميق في خلق تجربة فنية مميزة وعميقة، تفيض لوحاتها حيوية وجمالية بها فرطاً من الحركة واللون، فكأنها سنفونية عُزفت بأنامل فنان يتوق إلى إبداع الجمال وإعطاء اللون حضوراً جوهرياً بكل قيمه الدلالية والتعبيرية والجمالية الفائقة، فـ”بوقشة” تشكيلـي متمكن يصافح العيون المحبة للألوان، ويكشف عن حُبه للارتجال والمغامرة في تشكيل السطوح من ارتعاشات واجتراحات لونية تتميز بدرجاتها وامتزاجها في جمع بين الألوان الضاجة والباردة وخلق تجانس مميّز بينهـا. إن الطرح الإبداعي الذي يصبو إليه الفنان من خلال فنه يعطي المتلقي مساحات تأمل تُقلق إيمانه بالمألوف والمتداول، وفي الوقت نفسه إثارته وتحقيق انبهاره وزجه بعالم متخيّل يمنحه مساحة مضافة لخلق رؤى مغايرة تحمل في طياتها طاقة للتعبير عن الواقع، وكأنما هي رؤية ضمنيّة داخل اللون وصياغة تشكيلية معاصرة تشي بحيوية متجددة وتزيد من طاقة النص التشكيلي لـ”بوقشة” الذي نجح كفنان في إبداع تجربة فنية متجددة الرؤى والمضامين والتصورات الجمالية، أعماله تستمد جمالها من تراكمات طبقات اللون وامتداداته التي لا يمكن محاصرتها لسريانها داخل الأثر، حتى بدا المتن الإبداعي للناظر وكأنه نسيج لوني من نسج ذاكرة بصرية مفتونة بجماليات اللون( قيم داكنة تجاورها قيم لونية فاتحة)، يبدو أن الفنان يسرد رؤاه بأبجدية التشكيل اللوني، فيختلق سيولة لونية رشيقة متناغمة يروضها على مساحات تهب سرها الأبدي في لمسات إبداعية خلاقة تتقاسم التردد بين الضوء والظّل، تضاد بصري يحملنا إلى سحر الأمكنة وسردية اللون وشعرية الأثر.
ليحتفي (بوقشة) في لوحاته بعنفوانية الألوان وإفلاتها من صرامة التشكيل تتخذ صياغات جديدة متحررة، منفلتة ملفتــة متناسلة تشكيلياً وجمالياً لتعلن عن مغامرة ساحرة، لوحات تنطق بلغة الجمال وإيقاع التجريد، ألوان وكأنها تعلي صرخات الحرية الأبدية، استسلمت لعفوية غير مفكر فيها يوظفها الفنان بطريقة تثير الدهشة في ذهن المتلقي، فيسافر بفوضى خياله وراء صخب اللون وأسراره ويسْتشعر حواراته الهرمونية الخفية ويسمع تنغيماته اللونية وبانوراميتها ببصره وبصيرته. فهو إذن يمتلك مهارات التوظيف من خلال إبداعه النابض في مراوحة بين الخيال والمادة اللونية معانقاً اللوحة ضمن سفر حسي وحركي وتجريدي. وكانه يستحضر قولة هنري ميشو(Henri MICHAUX) بقوله “اني مع الذين يعشقون الحركة التي تكسر الجمود وتربك الخطوط وتستغني عن الانسياق وتخلّصني من التكوينات،حركة بمثابة التمرّد والتّعديل”. كانت اخر اعماله مبنية على ردات فعل وأفعال تلقائية ارتجالات متعاقبة متخذاً الطابع الصدفوي في انشاء العمل وتكوّنه .
تمثّل أعمال بوقشة ولادة فنية جديدة لـ”رحلة ذهنية جمالية وجهد إبداعي ووعي مغامرولعب تشكيلي لامتناهٍ وبوح لوني ببلاغة ساردة ورهافة حسية عالية”… فـبوقشة الفنان يحسن الإفلات من قوانين المنطق نحو منطق لعبي (منطق الفعل) فوضوي تجريدي جديد تتميز فيه المساحات اللونية بزخم تعبيري جمالي تكون بمثابة فضاءات سحرية وفسحات جمالية من خلال لعبة الثراء اللوني الذي يسافر بنا إلى عوالم متاهيّة تتبدى في مغامرة شاعرية لامتناهيـة. وهو ما نرصده في مساره الفني مؤخراً، حيث نحى بمراسه التشكيلي نحو الاداء الفني performance وذلك في تحول جريء من فضاء الورشة المغلق (الاطار التقليدي)الى الفضاء المفتوح على ناظر المتلقي لتقريب فنه من الجمهور وربط علاقة معه في ارتجال ممسرح امام محامله التي تاسره ببياضها فيستفزها بالوانه كعادته لتصرخ لوناً وسحراً وتشكيلاً ضمن فعل أدائي يأتي في قالب فرجة ترتكز على الرسم الادائي للفنان من خلال وجوده الفعلي وأفعاله المباشرة امام جمهوره وهنا اضحى فنان فعلاني يستثمر جسده “لانشاء ديناميكيّة بين الرسم المنجّز وحركته” كما يقول الدكتور سامي القليبي في كتابه الرسم الادائي المعاصر ورهان الافتضاء. وكأن الفنان يقدم طقساً فرجوياً تشكيلياً،ففي هذا السياق يرى الباحث توماس ماك ايفيلي(Thomas Mc EVILLEY) أن “فناني الاداء قد جذروا أداءهم في اشكال الطقوس القديمة التي سبقت أفكار التنويروبدايات النظرة الحديثة للتاريخ”[1] ويعرف ستيفات رينولت(Stéphane RENAULT) فنّ الاداء بأنه “فعل في الزمن والفضاء، حالة وعي، رسْمُ خط لترك اثر لحظة شدة،حالة مغايرة، انتاج شديد الاثارة، وان نكون متفرجين،نتغيّر أيضاً فيؤثّر ذلك على نظرتنا[2]، لوحات أعلنت ولادة لغتها واسلوبها لتبُوح عن أسرارها وتحدثنا عن حكاياها وعن مغامرة فنية بطقوس لونية تسردُ حكاية تأمّل في المجهول، وقد استدعت خطاباً تشكيلياً متعدّد اللهجات يضعنا في مناخات تشكيلية تجريدية تضيعُ فيها أبصرنا وتأخذنا في رحلة متجددة من التأملات والأفكار والاحاسيس والرؤى الجمالية. ولعلنا نحاذي الصواب إذا اعتبرنا أن اللوحات الفنية لبوقشة خاضعة تحت وطأة التجريد اللوني،حيث نرى انسيابية الألوان قد استفحلت السطوح بكل جرأة وجنون ومجازفـــــــة تدفع اللون إلى أقصى حدوده وامتداداته،انسيابية قائمة على الدقة والتروي والموازنة بين الألوان التي تشّكل جماليات السطح التشكيلي،إنه توجه لونــي واضح في جل أعماله التشكيلية يأخذُ المتأمّل في متاهة بصرية بعيدة المدى ..
تجربة فريدة نلتمس فيها بصمة فردية نابعة من ذات حالمة متأملة،تؤكد لنا خبرة معرفية فنية وحسية لفنان عاشق للون يفاجئنا بملونات تحمل ثراءً وجمالاً تصويرياً، تتميز ببنيانها الجمالي وقد ميزها ذلك النمط الأسلوبي الذاتــي والمتفرّد،بحثاً عن قيم تعبيرية من خلال التوليف اللوني الذي يمنح أعمالــه رونقاً وجمالاً خاصاً تُحققه اجتراحات اللون وجاذبية الأثــــــر. إذن تكشف تجربة بوقشة الفنان عن بعد جمالي في الفن التونسي المعاصر،حيث ينتهج نمطاً تعبيرياً وفعلاً إبداعياً في تمثل المفاهيم الجمالية وطرحها إبداعياً وفق رؤية ذاتية تفصح عن أسلوب وفعل تشكيلي جمالي وليكشف أيضاً عن قصدية إبداعية ومضامين تعزز فاعليتها من خلال الوعي الفنــي[1]. فيصبح الفن كما يقال “أسلوب حياة.” أي “حينما يكون الفن حياة تصبح الحياة فنـــاً.” وفي هذا الحيز الجمالي يطنب الفنان في ابداعه لتلوينات مغرية يكون فيها اللون كما يرى الناقد شمس الدين العويني”ممحاة لدرء النسيان والقول بالقيمة كجوهر وحقيقة.. ما الذي يحدث حولنا و بيننا وبنا في هذا البرد الكوني..” هو فنان يسرد افكاره لونياً، يبوح بما تضج به جوانيته وذاكرته من هواجس وأحاسيس وانفعالات بتلوين حالم واسلوب مُنفلت الى افاق لامحدودة، الى عوالم لانهائية يبهرنا فيها بطاقات اللون التعبيرية.
شارك رأيك