هل يمكن الاتجاه في تونس نحو تغيير تسمية المجلس القومي للأمن لدينا بمجلس الأمن والدفاع الوطني؟ بحيث يبقى المجلس وزاريا فقط ومضيّقًا ليضبط توجهات الدولة ويتّخذ قرارات سيادية في مجالات الدفاع والأمن والمخابرات، على أن يُوكَل موضوع بلورة الاستراتيجيات ومتابعة تنفيذها إلى كل ّمن المجلس الأعلى للجيوش، والمجلس الأعلى لقوات الأمن الداخلي وربما لاحقًا مجلسًا أعلى للمخابرات والاستعلامات بفرعيه العسكري والأمني، كلّ حسب مشمولاته. (الصورة : الرئيس قيس سعيد يرأس المجلس الأعلى للأمن القومي)
العقيد محسن بن عيسى
ارتبط مصطلح الأمن القومي في الأدبيات السياسية بالدولة القومية الحديثة، ويوجد في العديد من الدول مجلس على هذا المعنى، وهو هيئة استشارية مساعدة لرئيس الدولة في مسائل الدفاع عن البلاد. ظهرت المجالس لأول مرّة تحت مظلة الدفاع الوطني سنة 1906، واتخذت أشكالاً مختلفة على مدار القرن العشرين. تمّ إضفاء الطابع المؤسسي على إحداثها لدى بعض الدول (فرنسا مثلا) منذ 1958، وتوسّعت اختصاصاتها في العقود الأخيرة لتشمل قضايا الأمن الداخلي.
التباس المصطلحات
قد يتساءل البعض عن الفرق بين ما هو وطني وما هو قومي، فالأمن الوطني يحافظ على مصالح الدولة أم الأمن الإقليمي فغايته الحفاظ على مصالح مجموعة من الدول في إطار قومي. وكلاهما مدرج ضمن مستويات الأمن (الأمن الفردي، الأمن الوطني، الأمن الإقليمي، الأمن الدولي).
ليس بالضرورة أن يكون هناك التباس بين الأمن الوطني والأمن القومي في حال وجود تنسيق ما بين ما هو قُطري وما هو قومي. ولكن علينا أن ننتبه أنّ مفهوم الأمن القومي لا زال فضفاضًا وضبابيًّا ومتبايناً في مدلولاته من مرادف للأمن الوطني أو كمرادف للأمن الإقليمي.
ثمة انتقاد آخر نحتاج إلى ذكره في هذا السياق، وهو الخلط بين القومية والأمة، فلا يجوز اعتماد لفظ “القومية كمرادف لـ “الأمة”، فلفظ “الأمة الإسلامية” يشمل كل القوميات من البوسنة والهرسك حتى الصين باختلاف قومياتهم.
من منظور تاريخي، تعتبر القومية من العوامل القوية التي قرّرت مصير الشعوب في التاريخ الحديث. وقد ظهر هذا المفهوم منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا وأصبح في القرن العشرين حركة عالمية. وقد عزّز من ظهوره في الدول العربية، رغبة الدّاعين إليه للتخلّص من الحكم العثماني والعمل على قيام كيان عربي بعيدًا عن عنصر الدين الذي كان العثمانيون يحكمون العالم باسمه.
شهد هذا المفهوم ثقلا أيديولوجيًا زمن الرئيس جمال عبد الناصر حيث راهن على القومية كوسيلة فعالة لبسط هيمنته على أقطار المشرق والمغرب العربيين فقام بدعمه إعلاميًّا وسياسيًّا وقد تمكن هذا التيار من تحقيق الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1958، إلا أن الانفصال الذي حدث سنة 1961 سبب نكسة لمسار القومية الذي وظّف ليس للتنمية والوحدة وإنما للهيمنة على الآخرين.
انقطع بعد ذلك الأمل في أيّ تنسيق من أيّ نوع بين الأنظمة المتَبنِّية لهذا الفكر على الأقل في مواجهة العدو المشترك إسرائيل. ثم جاءت هزيمة 1968 لتضع نهاية مؤلمة لتطلعات القومية. وأبرزت حرب غزة أخيرًا غياب الموقف العربي الموحّد لإنقاذ الفلسطينيين من المأساة الإنسانية المتعلقة بحصار وقتل شعبٍ أعزل، وبالتالي لا يمكن الحديث عن موقف عربي موحّد ولا على القومية.
سيجادل البعض، ولكن تاريخ المنطقة العربية حول القومي والقومية لا زال مجرّد مجموعة من الاستفهامات التي لا يستطيع إزاءها المحلل إلاّ أن يقف حائرًا غير قادر على تقديم إجابة مُقنعة. أنّ الحديث عن أمن قومي بالمعنى التنظيري المعاصر تجاوزته الأحداث. فمفاهيم الأمن بين الدول العربية متباينة ومتفاوتة بين أمن الانسان إلى أمن المجتمع وأمن النظام أو أمن الدولة. مفاهيم تعكس وضع العالم العربي واختلافاته المتعدّدة.
السياسة الدفاعية الجديدة
تقول نظرية القوة إنّ الدولة، ومن خلال تحقيق مقومات قوتها، تحقق مصالحها وبتحقيق الدولة لمصالحها تزداد قوّتها. ومن أعلام هذه النظرية ميكافيلي، وهوبز، ومرغانثاو، وأولفز، وأورغانسكي، وبحسب هؤلاء الأعلام فإنّ أقصى ما تسعى إليه الدول هو البقاء، ولا مجال لتحقيق البقاء إلاّ بإدراك التهديدات المحتملة في وجه الدولة، ومن ثم تحديدها والتعامل معها.
الأمن هو جوهر نظرية القوة، وبامتلاك الدولة للقوة تكون قادرة على حماية نفسها والتأثير على الآخرين. ولا شك أن الأمن يكتسي أهمية كبيرة أمام انتشار ظاهرتي الإرهاب والجريمة الدولية بشكل عام وتحقيق الوحدة داخل الدولة والحفاظ على قيم المجتمع بشكل خاص.
على صعيد آخر عرّف روبرت مكنيمارا – وزير الدفاع في عهد الرئيس الأمريكي كينيدي الأمن بأنه “إيجاد مناخ داخل الدولة ملائم للتنمية والتطور، وذلك من خلال إدراك الدولة العميق لمصادر التهديد الموجّه إليها والعمل على حماية مقدراتها لتحقيق التنمية، حاضرًا ومستقبلاً”.
من المهم الإشارة وأن السياسة الدفاعية تستند في الفكر الجديد إلى مقاربة مشتركة بين الوزارات ومنظمات المجتمع المدني. مقاربة تجمع بين التهديدات الداخلية والخارجية، وتميل إلى دمج مفهومي الأمن والدفاع.
سوف يسارع البعض ليذكرنا كذلك أنّ الأنظمة الديمقراطية في العالم، حرصت على أن يكون هناك فصل واضح بين أدوار الجيش (للحماية من التهديدات الخارجية) والقوات العمومية (للحفاظ على الأمن العام الداخلي) وأجهزة الاستخبارات (لجمع المعلومات ذات الأهمية الوطنية وتقييم التهديدات الداخلية والخارجية)، وأقرّت ذلك في إطار دستوري وتشريعي.
لا شك ان الأمن الذي تنشده الدول اليوم تجاوز المفهوم العسكري إلى مفهوم الأمن الشامل. والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة الآن:
إلى أي مدى يمكن الاستئناس بهذه التحولات الجارية في المقاربات الأمنية دوليًّا؟
وهل يمكن الاتجاه نحو تغيير تسمية المجلس القومي للأمن لدينا بمجلس الأمن والدفاع الوطني؟
يبقى المجلس وزاريا فقط ومضيّقًا ليضبط توجهات الدولة ويتّخذ قرارات سيادية في مجالات الدفاع والأمن والمخابرات، على أن يُوكَل موضوع بلورة الاستراتيجيات ومتابعة تنفيذها إلى كل ّمن المجلس الأعلى للجيوش، والمجلس الأعلى لقوات الأمن الداخلي وربما لاحقًا مجلسًا أعلى للمخابرات والاستعلامات بفرعيه العسكري والأمني، كلّ حسب مشمولاته.
لا يمكن أن نُشرك ولاءنا للوطن بولاء آخر ولن تكون تونس قوية ومنيعة إلاّ بمؤسساتها الوطنية وأبنائها.
ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني,
شارك رأيك