يعتقد بعض هواة السياسة و بعض النشطاء و محللي المقاهي أن أنظمة الحكم تسيرها الدوغمائية و المحسوبية و الزبونية، و أنها تسبح في الغفلة و السطحية مما يوقعها في الأخطاء الفادحة التي تعجل برحيلها و سقوطها. و يظلون يحسبون أنفاس الحاكم على أمل عثرته في اليوم الموالي، و هذا ما سماه محمد مزالي “منامة عتارس” في قاموس الصراع على خلافة الحبيب بورقيبة في ثمانينات القرن الماضي.
سعيد بحيرة
و ينسى أصدقاؤنا النشطاء أن السلطة ليست فردا و لا شخصا مهما كانت قوته و سطوته ذلك أن المصالح و الأفكار بأنواعها تصنع حلفا أو منظومة متضامنة و تعتمد أجهزة هي نفسها في كل أنظمة الحكم، و هي تقوم بوظائف الممارسة و الحماية و التطوير و يصح ذلك على كل الأنظمة و في كل العصور.
كما تتفاعل تلك الأنظمة مع الداخل والخارج و مع كل صغيرة وكبيرة لها صلة بتجويد الأداء. و ليس أبلغ من المتغيرات التي تشهدها جل البلدان هذه الأيام بعد ان رجع الفيل الأمريكي إلى مغازة الخزف لينذر بتكسير بعض الأطباق و التحف. وليس لأي كان أي عذر في تجاهل المستجدات التي سبق وأن مرت كالعاصفة من هنا و هناك و خلفت خسائر.
و بعيدا عن دردشات المقاهي المسمومة أحيانا تعيش عديد البلدان إرهاصات جدية لتمتين اللحمة الوطنية الداخلية حتى تكون صمام أمان أمام احتمالات مرور الفيل أو ما شابهه.
حوار وطني لتقوية الجبهة الداخلية
فهذه مصر تشهد تأسيس حزب وطني يجمع طيفا واسعا على أساس الوطنية المصرية و الوحدة القومية الداخلية و بقيادة رموز لها تمثيلية معترف بها ضمن الرأي العام. و تأتي هذه المبادرة درءا لخطر الانقسام و تحسبا للمخاطر الخارجية. و الطريف أن يحمل الحزب الجديد اسم “الجبهة الوطنية” و كأن الأحزاب الأخرى توجد خارج هذه الجبهة و خارج الوطنية، و منها أربعة عشر حزبا ممثلة في البرلمان و أكبرها حزب “مستقبل وطن” صاحب الثلاث مائة و عشرين نائبا و صاحب الأغلبية .
و في الجزائر قال الرئيس تبون أنه “سيطلق حوارا وطنيا لتقوية الجبهة الداخلية و لضبط المسيرة المستقبلية المشتركة، و صونا للبلاد من التصدعات الممكن حدوثها…”. و معلوم أن الجزائر تعيش ضغوطا إقليمية مشبوهة منها الهيكلي على غرار التوتر مع فرنسا التي تحن إلى الهيمنة و الوصاية، و منها الضغوط الطارئة في ارتباط بتمدد إسرائيل ووصولها إلى مدينة وجدة على الحدود المغلقة مع المغرب منذ 1994، ناهيك عن التطورات الحاصلة في النيجر و مالي و ليبيا و تشاد. أما عن قصة الوصاية على حرية الرأي و الديمقراطية التي يتولاها الاتحاد الأوروبي فحدث و لا حرج…
و هكذا تبقى الوحدة الوطنية هي الملاذ الأخير لضمان الحد الأدنى من الوحدة و سد باب الاختراق الخارجي غير البريء.
نحو حوار جدي بين مكونات المجتمع السياسي
و قد يكون من هذا المنطلق لوح الرئيس قيس سعيد بتفعيل “وحدة وطنية صماء ستتكسر على جدارها كل المحاولات اليائسة لضرب الاستقرار “. و ليست تونس في مأمن من مخاطر الزعزعة و التربص بتجربتها السياسية. كما أن وضعها الداخلي يتطلب رأبا للصدع الحاصل في المجتمع السياسي الذي تشقه توترات و انقسامات تشبه الارتدادات للتغيير العميق الذي شهدته سنة 2011. و حتى لا تتحول تلك الارتدادات إلى شروخ وجب إحياء الوحدة الوطنية، و قد لجأت إليها البلاد في كل مرة واجهتها تحديات و مخاطر.
و المتجه تنظيم حوار جدي بين مكونات المجتمع السياسي في الفترة المقبلة قد يتخذ شكلا جديدا يفرق بين الفاعلين السياسيين و مكونات المجتمع المدني تجنبا لتداخل الأدوار و احتراما للقوانين السارية. و لتونس تقاليد في هذا الشأن منذ اجتماع القوى الوطنية ليلة القدر سنة 1946 و انتخابات المجلس القومي التأسيسي و تجربة التعاضد بداية من 1964 ثم عملية قفصة سنة 1980… و في كل مرة كانت الجبهة تضم الأحزاب و المنظمات الوطنية و ربما ولى ذلك التمشي و انقضى ووجب انتظار تشكيل جبهة وطنية بمفهوم جديد و تركيبة مبتكرة و سيكون ذلك حدثا هاما لكن الأهم منه هو تجاوز حالة الانقسام و تحصين البلد.
باحث و كاتب.
شارك رأيك