نضجنا السياسي يُقاس بالأولويات التي نصعها لأنفسنا

بينما تضمّد غزة جراحها وسط مشهد من الدمار، بعد عام و نصف من القصف الإسرائيلي، حيث تتوه آلاف العائلات بحثًا عن مأوى بين الأنقاض، يبدو أن البعض قد وجد انشغالات أخرى “أكثر  إستعجالا”. فبينما توقفت القنابل عن السقوط، و الجوع والمرض والمعاناة ما زالت تفتك بعشرات الآلاف من النازحين، ينشغل البعض بأمور أخرى، ثانوية جدا، بعيدًا عن جراح الحرب وصراخ الأطفال المشردين.

خميّس الغربي

في هذا السياق من المعاناة الشديدة، تصطدم موجات السخط الجماهيري والتعبئة الإنسانية بظاهرة غريبة : الهوس بجدالات هامشية. فبدلًا من التركيز على المساعدة على إعادة الإعمار، أو دعم الضحايا، أو على المطالبة بالحق و العدالة، حدّد البعض غاية وجودهم في التدقيق في أطروحات وبحوث طلاب الدراسات الإسلامية. وكأن التهديد الحقيقي في هذه المرحلة الحرجة لا يكمن في حياة آلاف الفلسطينيين، بل في بضع صفحات كُتبت في جامعة تونسية. وكل ذلك انطلق من رسالة أكاديمية حول الزواج في الفقه الإسلامي، وهو موضوع علمي كغيره من المواضيع، لكنه كان كافيًا لإثارة زوبعة من الجدل العقيم.

تمييع القضايا الحقيقية

هذا الانحراف في التركيز ليس عابرًا، بل هو جزء من آلية مدروسة حيث يستخدم العدو الإلهاء كسلاح استراتيجي. من خلال تسليط الضوء على قضايا ثانوية وإشعال جدالات عقيمة، يساهم هؤلاء الأشخاص، عن قصد أو عن غير قصد، في تمييع القضايا الحقيقية. فبدلًا من التنديد بالمجازر، يتحولون إلى أدوات دعاية للعدو تُبعدنا عن القضايا المصيرية.

وليست هذه المرة الأولى التي نشهد فيها مثل هذه الاستراتيجية. فقد امتلأ التاريخ بأمثلة على شعوب كانت تخوض معارك مصيرية، لكن تم تفتيتها وإلهاؤها بنزاعات مصطنعة. وعندما ينصبّ الاهتمام على قضايا جانبية، تضعف اللحمة، وتتبدد موجات الغضب، ويتفرق من كان يفترض أن يكونوا موحدين.

إنه مشهد يدعو إلى الاستياء. كيف يمكن لشخص يملك ذرة وعي أن يختار توجيه طاقته نحو تفاصيل تافهة بينما مصير شعب بأكمله على المحك؟ ليست المسألة هنا اختلافًا في الرأي، بل هي قضية أولويات أخلاقية. فالأشخاص الذين يصرفون أنظارهم عن المعاناة الحقيقية ليغرقوا في نقاشات لا تأثير لها، إما أنهم مغيبون في تفاهتهم، أو أنهم متواطئون مع أجندة أكثر دهاءً.

أمام هذا الواقع، من الضروري ألا نقع في الفخ. فكل ثانية تُهدر في الرد على هذه الانحرافات هي ثانية مهدورة في سبيل المطالبة بالعدالة، أو مساعدة الضحايا، أو إعادة بناء ما تم تدميره.

الأولوية ليست في مجادلة نصوص أكاديمية، بل في منع تكرار التاريخ، مرة تلو الأخرى، عبر تبذير انتباهنا عن القضايا المصيرية، ليسهل نهب ثرواتنا واستنزاف طاقتنا.

كاتب و مترجم.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.