من الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها قيادة حركة النهضة و جهازها السري أنها اعتقدت في لحظة غرور سياسية أن الرصاصة قادرة على إسكات صوت من يعارضها كائنا من كان و لعل راشد الغنوشي – هذا إن ثبت تورطه في عمليات الاغتيال – قد انتبه الآن وهو يواجه مصيره المحتوم بحيث سيقضي بقية عمره في السجن أنه ارتكب الخطأ الذي لم عليه ارتكابه مهما شعر بالضيق و الحقد و الكراهية تجاه الشهيد شكري بلعيد.
![](http://www.kapitalis.com/anbaa-tounes/wp-content/uploads/2020/12/أحمد-الحباسي.jpg)
أحمد الحباسي
لقد حولت الرصاصات الغادرة التي اخترقت و مزقت جسد الشهيد إلى بطل قومي و حولت راشد الغنوشي – على الأقل في رأي عدد كبير من التونسيين – إلى إرهابي معجلة بتباشير سقوطه من عرش السلطة الذي اعتلاه فئ لحظة تاريخية خاطئة.
العقلاء يدركون أن الأفكار لا تموت و مواجهتها بالرصاص ينعشها فتبقى في ذاكرة الأحياء خالدة أبد الدهر و من قتل المناضل الأمريكي الأسود مالكولم ايكس قد قتل الجسد لكنه لم يقتل الفكرة في ذهن كل من أحب الرجل.
لقد توهمت قولدا مايير حين أمرت باغتيال الشاعر و الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني في بيروت سنة 1972أنها قتلت أفكاره المتناثرة التي عشقتها أذهان الأحرار لكن النتيجة المعلومة كانت فضيحة وفشلا ذريعا لترحل العجوز القاتلة و تبقى أفكار الشهيد حية لا تموت .
رغم كل ما حدث من تحقيق و أدلة و هرج و مرج و سقوط في متاهات الجدل فلا تزال رحلة البحث عن الحقيقة مستمرة و لا يزال جرح البحث عن الحقيقة نازفا مؤلما و الظاهر أن الحقيقة لن تر النور بعد أن فشلت الدولة بكل أجهزتها في كشف حقيقة الاغتيال سواء على مستوى من خطط و أمر بالتنفيذ أو على مستوى من كلف من الجهاز القضائي و الأمني بالتعتيم و التغطية و زرع العراقيل في وجه كل محاولات إظهار الحقيقة و من الأمانة اليوم أن نقرّ بما لا يدع مجالا للشك أن كل الرؤساء المتعاقبين منذ تاريخ الاغتيال ضالعون في التستر و عدم الرغبة الصادقة و الناجزة في كشف جريمة اغتيال بشعة يجمع المتابعون على توصيفها بجريمة دولة.
خيوط الجريمة تائهة بين رفوف العدالة
لقد أثبتت التحقيقات بعد سنوات من التضليل و الأخذ و الرد أن العملية الغادرة قد نفذت بواسطة عناصر مقربة من الجهاز السري لحركة النهضة مرتبطين ارتباطا عضويا بقيادات الحركة و ربما أيضا برئيسها راشد الغنوشي على وجه التحديد و لكن و رغم ذلك لا تزال كامل خيوط الجريمة القذرة غير مكتملة و تائهة بين رفوف مرفق العدالة و أزقة الجهاز السري لحركة النهضة.
يعلم المتابعون لأدق تفاصيل الأبحاث و الأحكام الفرعية الصادرة أن قضية الشهيد شكري بلعيد ترتبط ارتباطا عضويا بعدة قضايا متفرعة عنها لا تزال محل نظر قضاء متباطئ و ستمكّن من استكمال تحديد السردية القضائية الكاملة لعملية الاغتيال وهي سردية لن يكتب لها القبول إن لم تجب عن الأسئلة الجوهرية حول من خطط و أمر و مول و نفذ و من اختار التوقيت و لماذا إلى آخر الأسئلة المنطقية و الجوهرية التي تكون فكرة شافية يمكن أن تؤدى إلى إغلاق ملف مرعب لم تعرف تونس له مثيلا في تاريخها.
لقد كشفت الأبحاث أن مجموعة تنفيذ عملية الاغتيال من المجموعات المرتبطة بالجهاز السري لحركة النهضة و بعدة مجموعات إرهابية خارجية متطرفة و قد راكمت الخبرات في تنفيذ الاغتيالات و التقت بقيادات إرهابية أجنبية في العراق و سوريا و اليمن و السودان و أفغانستان كما كشفت الأبحاث من جهة أخرى عن عديد الوجوه القضائية التي سعت لتضليل التحقيق و كتم الحقيقة داخل إدراج مكاتب حكام التحقيق و هو ما مثّل الوجه القبيح للعدالة عندما تتحول إلى مرفق متآمر و غير مهني.
ربما شكل عزل القاضي بشير العكرمي في شهر جوان 2022 منعرجا هاما في مسار البحث عن الحقيقة التائهة بين رفوف مكتبه و ربما تسارعت الأحداث و التحقيقات بعد عملية الإقالة لكن من الواضح أن الأسئلة المهمة لا تزال بلا جواب و أن هناك أطرافا في الأمن و القضاء لا تزال تتلاعب بالحقيقة أو ما تبقى من الخيوط المبهمة و هو الأمر الذي وقفت عليه هيئة الدفاع عن الشهيد شكري بلعيد بحيث اضطرت منذ أسبوع تقريبا إلى اتخاذ قرار صادم منتظر بتعليق حضورها و سحب اعترافها بمرفق العدالة و إطلاق صيحة فزع معتبرة أن ملف الشهيد قد تحول إلى مجرد ملف حق عام مما جعل من محاكمة المورطين عملية محاسبة قضائية تقنية مفرغة من أبعادها الوطنية و التاريخية و السياسية.
من الواضح أن المرفق القضائي قد شكل عبء ثقيلا على الحقيقة و من الأكيد أنه قد وقع تلاعب بالحقيقة و بكثير من الخيوط المهمة الموصلة إليها و ربما هناك يأس معلن من إصلاح هيكل القضاء بعد إن استعمله و استغله الجميع منذ 14 جانفى 2011 إلى الآن لأغراض سياسية ضيقة لذلك ستظل الحقيقة غائبة لسنوات أخرى و تلك هي مآلات جرائم الدولة في كل العصور.
كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك