أي خيار لإصلاح التراث؟

يجمع المختصون على تشخيص الوضعية المتردية للمؤسسات المكلفة بالتراث والتي من تداعياتها ما يشهده القطاع من تهميش وتجاوزات وارتجال في ادارته، كما يتفقون على ضرورة القيام بإصلاحات جذرية على مستوى تلك المؤسسات التي أصبحت، بمرور الزمن وتنامي مجال تدخلها، عاجزة عن القيام بالمهام المناطة بعهدتها. ولئن اختلفت الرؤى حول خيارات الإصلاح، إلا أنها تكاد تتلخص في ثلاث توجهات كبرى، تستدعي كل منها دراسة معمقة.


يتمثل الخيار الأول في الحفاظ على المؤسسات الحالية مع تفعيل النصوص الخاصة بها، والاقتصار على مراجعة جزئية لمخططات إدارتها في اتجاه إيجاد حلول لأهم الإشكاليات القائمة. يمكن أن يكون ذلك عبر تفعيل النص الذي يضبط مهام الإدارة العامة للتراث، باعتبارها مكلفة بوضع السياسة التراثية للدولة ومتابعة تنفيذها والتنسيق بين المؤسسات المعنية، وبتوضيح المهام وبعث إدارات جهوية لتجاوز مشكل المركزية المفرطة، كما يتم التنصيص في الهيكلة المنقحة على المهام الجديدة التي أصبح يشملها مجال التراث. رغم أن هذا الخيار هو الأقل كلفة، إلا أنه يعجز عن حل إشكالية رئيسية ناجمة عن عدم قدرة الإدارة العامة للتراث على إلزام بقية المؤسسات بالقرارات التي تتخذها والحال أن جميعها إدارات مركزية، على رأس كل منها مدير عام، بما في ذلك الإدارة العامة للتراث، مما أفرز نوع من التنافس بينها يصل أحيانا حد التضارب، هذا الى جانب ثقل الصيغة الإدارية الحالية، والمكبلة للمعهد الوطني للتراث تحديدا، باعتباره مؤسسة عمومية ذات صبغة إدارية.
ويتمثل الخيار الثاني للإصلاح في بعث “كتابة دولة للتراث”، يمكن إلحاقها برئاسة الحكومة، أو برئاسة الجمهورية، تقوم مقام “الإدارة العامة للتراث” في رسم السياسة التراثية للدولة والقيام بمهام المتابعة والتنسيق. في هذه الحالة يمكن تغيير الصيغة الإدارية المكبلة للمعهد الوطني للتراث ليصبح مؤسسة عمومية ذات صبغة غير إدارية على غرار بقية المؤسسات المكلفة بالتراث، هذا الى جانب القيام بمراجعة مخططات إدارة كل من المعهد الوطني للتراث ووكالة إحياء التراث في اتجاه توضيح الاختصاصات، واستيعاب المهام الجديدة لكليهما، علاوة على بعث إدارات جهوية لتفادي المركزية المفرطة. أما بالنسبة لمؤسسة قصر السعيد تحديدا، فيمكن تكليفها بالآثار الوقائية التي تمثل أهم اختصاص استشرافي يمكن التعويل عليه لتوفير إمكانيات تمويل جديدة تعاضد مجهودات الدولة في تحمل أعباء القطاع وذلك بإقرار مبدأ الباعث-الممول، وهي إمكانيات يمكن توظيفها لخلق مواطن شغل في جميع اختصاصات التراث، ولتركيز سياسة وقائية أصبحت ضرورية لحماية مخزوننا الأثري من الانتهاكات والاخطار كما هو الحال في التجارب المقارنة. إن بعث “كتابة دولة للتراث” من شأنه أن يضمن الصبغة الإلزامية الضرورية لتنفيذ السياسة التراثية للدولة، والقيام بمهام المتابعة والتنسيق بين المؤسسات المعنية في اتجاه التكامل والنجاعة، وهو خيار يمكن أن يعكس إرادة جدية لإقرار إجراءات ثورية على مستوى إدارة التراث، لم تجرؤ الحكومات السابقة على اتخاذها لأسباب مختلفة.
أما الخيار الثالث فيتمثل في المقترح الحالي لوزارة الإشراف والذي ينص على دمج المؤسسات الثلاث المعنية بالتراث في ديوان ذي صبغة تجارية، مع الإبقاء على الإدارة العامة للتراث وتفعيل النص الخاص بها لتقوم برسم السياسة التراثية ومتابعة تنفيذها، كما تنص الهيكلة المقترحة للديوان على أربع إدارات مركزية على رأس كل منها مدير عام. إن هذا الخيار يطرح إشكاليات عديدة في مقدمتها استحالة توفر الصبغة الإلزامية لقرارات “الإدارة العامة للتراث” بعلاقة مع “ديوان” يتمتع بهامش أكبر في التصرف، يديره “رئيس مدير عام”، ناهيك عن ثقل المهام التي ستوكل لهذا الجهاز والتي ستشمل موارد بشرية ومجالات تدخل تتعهد بها حاليا ثلاث مؤسسات، علما وأن عدد الإدارات المركزية المقترحة، وجميعها بخطة مدير عام، يتجاوز العدد الحالي مما من شأنه أن يكرس تعدد المتدخلين وتشتت المجهودات. أما الصبغة التجارية للديوان المقترح فلعلها الأكثر خطورة على مستقبل إدارة القطاع، حيث أنها تلغي الصبغة العلمية الملازمة لكل العمليات المتعلقة بالتراث، والتي تمثل أكبر ضمان لحسن التصرف فيه وصيانته وتثمينه، جاعلة منها مهمة ثانوية ضمن مهام أخرى عديدة.
إن تشعب خيارات اصلاح التراث والتداعيات الممكنة لأي منها على مستقبل القطاع يستوجب التريث، وتوسيع الاستشارة للاستفادة من جميع الخبرات، وتخصيص الوقت اللازم لدراسة كافة الخيارات، للوقوف على البديل الأمثل الذي يمكن من تجاوز النقائص دون التفريط في المكتسبات، ويتوافق مع الأهمية التي يكتسيها تراثنا الثقافي المؤهل ليكون أحد القطاعات الإستراتيجية ببلادنا. هذه الخيارات يمكن أن تقدم وتناقش جميعها أمام مجلس وزاري مخصص للتراث، لإقرار أكثرها نجاعة بما يتماشى مع سياسة الدولة، ويراعي مصلحة التراث، ويعطي لعملية الإصلاح بعد استشرافي على المدى الطويل.

بثينة المرعوي التلميني
أستاذة تعليم عال بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.