مرت بلادنا عبر تاريخها الطويل بأحداث جسام و منعرجات خطيرة كانت بمثابة الامتحان لكينونتها و شخصيتها فخرجت منها تارة منهوكة القوى و طورا مرفوعة الرأس. و نشترك في هذا المسار مع عديد الأمم و الأوطان، لكن لكل شعب عبقريته التي تلهمه أساليب و طرق المقاومة للاستمرارية و البقاء.
سعيد بحيرة

و قد عرفت تونس مرور غزاة و محتلين عديدين لأنها كانت في صلب الأحداث الكبيرة في منطقة حضارية عريقة لكنها استطاعت أن تحافظ على نوع من الحيوية مكنتها من القيام بدور ما حتى في أحلك الفترات.
و في لحظات الخوف و اليأس قد يتبادر إلى ذهن بعض أبنائها أن هذه البلاد كانت دائما لقمة سائغة للاحتلال الذي لا يخرجه سوى احتلال آخر يعقبه بحيث يتداول الغزاة عليها و كأنها كيان فاقد للحركة و عاجز عن رد الفعل. و مثل هذا الانطباع يحبط العزائم و يمهد الهزائم في النفوس و هي أشد خطورة من الهزيمة في المعارك الميدانية.
و يعمد البعض الآخر إلى التشكيك في مآثر الأمة و رموزها بدافع المزايدة في المواقف التي تغذيها ايديولوجيات إما محنطة أو لها غايات لاوطنية فتبث الريبة و تنعش الانقسامات و تعطل التوق إلى الاجتماع، و يسمى هؤلاء بالتحريفيين أو نفات الوقائع و هم يستعيدون حركيتهم في لحظات التأزم القصوى، و قد رأيناهم في أوج مناوراتهم إثر أحداث 2014، ثم قرأنا لهم التقرير الشامل لهيئة الحقيقة و الكرامة التي أعادت تركيب أحداث الحركة الوطنية و الاستقلال طبق قراءات حزبية فئوية أو حزازات عائلية و شخصية. و لكن للبلاد نساء و رجال يحبونها و يذودون عن حرمتها و تاريخها صونا لمستقبلها ووحدة شعبها مهما كانت درجات الإختلاف الذي يظل مصدر ثراء لا يفسد للود قضية كما يقال.
الدور البطولي للعروش و القبائل
و إن بالغ الزعيم الحبيب بورقيبة في طفرة الاستقلال و حماستها فقال بأن تونس تسترجع سيادتها لأول مرة في التاريخ فإنه كان عارفا بأمجاد البلاد و ملما بملاحم ذودها عن حريتها منذ أقدم العصور. و كان يستشهد بأبطال مقاومة الغزاة و المحتلين أمثال ماسينيسا و يوغرطة و الكاهنة و علي بن غذاهم و المنوبي الجرجار و محمد الدغباجي… و هو الذي كلف الكاتب و الشاعر محمد المرزوقي بجمع الشهادات الشفوية للمقاومين و ما ارتبط بهم من الأدب الشعبي فأصبحت أغنية “الخمسة اللي لحقوا بالجرة” تردد في حفلات الأعراس مما يفتح السردية الوطنية لكل الفاعلين حتى و إن اختلفوا و تنوعوا.
و إن حصل الانقسام داخل الحزب الدستوري الجديد إبان الاستقلال الداخلي فذلك لم و لن يلغي دور الأمين العام صالح بن يوسف و رفاقه. و إن ركز التاريخ الرسمي للحركة الوطنية على جوانب معينة من النضال و قيادات معلومة من المناضلين فإن ذلك لم و لن يلغي الدور البطولي للعروش و القبائل و المدن التي واجهت الاحتلال الفرنسي بصدور عارية و بشجاعة و حماس، و قد أنصفتها الدراسات والبحوث التاريخية التي أعادت لها اعتبارها و لا تزال.
الوطنية هي القاسم المشترك بيننا
و لا يسعنا و نحن نحيي الذكرى التاسعة و الستين للاستقلال إلا أن نعمل على ترسيخ وحدة المسار التحرري للتونسيين في مختلف الحقب التاريخية ، و أن نعتز بكل الإسهامات مهما كان اتجاهها لأنها تلتقي حول الحرية في توليفة وطنية تجمعنا حول مصيرنا المشترك، و لأنها تفرض علينا الوفاء لأرواح الشهداء الذين وهبوا أنفسهم ثمنا لحريتنا. و من المحفز على ذلك ما نشاهده من نزاعات تعصف بأوطان كانت بالأمس القريب قائمة الذات، و لما شقتها الصراعات انهارت مثل القصور الكرتونية. و العبرة تقتضي إحياء ذكرى الاستقلال ليشعر الشعب بوحدته في تنوعه و ليوطد أركان شخصيته الأصلية إذ أن الأبطال عابرون و الوطن هو الخالد، و كل جيل يؤدي مهمته ليكملها الجيل الموالي. و ستظل الوطنية هي القاسم المشترك بيننا و اللحمة التي تشدنا إلى بعضنا.
و معلوم أن استقلالنا جاء على مراحل تم استنباطها من عبقرية شعبنا و تمت قيادتها من قبل نخبنا بأنواعها فتكللت بالجلاء الزراعي سنة 1964 ثماني سنوات بعد الاستقلال السياسي. و إذا أردنا الحفاظ على حريتنا وجب علينا العمل لضمان مقومات الحرية التي تظل منقوصة أمام انعدام تكافئ الفرص بين أبناء الشعب و استمرار التنمية العرجاء و غياب الوحدة الوطنية و التبعية للأجنبي.
و مع ذلك يغمرنا الاعتزاز ببلادنا التي ترك فيها الأسلاف البعيدين و القريبين شيئا ما صامدا أمام المنعرجات و الاهتزازات الخطيرة.
فلتحيا تونس و المجد و الخلود لأبطال كل معارك حريتها.
باحث جامعي و محلل سياسي.
شارك رأيك