تركيا على صفيح ساخن : دع إسطنبول تحترق …

ربما يثير الوضع المتفجر فى إسطنبول و فى تركيا عامة انتباه المتابعين إلى عنوان الأغنية التركية الشهيرة “دع إسطنبول تحترق” و ربما يجد العارفون بما يحدث منذ يومين تقريبا  فى تركيا من مظاهرات عنيفة و شعارات قوية اللهجة و إصرار شعبى متصاعد و تداعي القدرات الأمنية بكل فروعها بما فيها الأمن السياسي ما يعطي لعبارات و كلمات هذه الأغنية معناها  الحقيقى و المواتى للزلزال المرعب الذي يضرب الرئاسة التركية المتآكلة و التى تعاني من روائح فضائح الفساد و الرشاوي التى طالت كبار المسؤولين و منهم على وجه الخصوص عائلة الرئيس التركى رجب طيب أوردغان.

أحمد الحباسي

ما يحدث في تركيا اليوم يؤكد أن الشعارات التى أطلقها الرجل منذ أن كان عمدة إسطنبول سنة 1994 لم تكن الا مجرد لغو سياسى باطل. ربما قفز الرئيس التركي من الشباك حين حصل ضده الانقلاب المشكوك في صحته سنة 2016 و الذى  جعله يستعمل كل أدوات القبضة الأمنية و الاستخبارية و العسكرية  للقبض على كل معارضيه و التنكيل بهم بصورة بشعة تجاوزت كل الأساليب البوليسية فى أكثر الأنظمة القمعية فى العالم وربما ظن الرجل أنه قضى على روح المعارضة ليعود من الباب لمواصلة قيادة تركيا .

لا يمكن لأي سلطة عاقلة و متبصرة فى العالم أن تواصل الجلوس و الوقوف على كرة العار و لا يمكن للرئيس التركي أن يواصل تربعه على كرسي الفضائح المدوية التى تتولى المعارضة التركية نشر تفاصيلها يوميا رغم التضييقات الأمنية و عمليات اغتيال الصحفيين و إغلاق مقرات وسائل الإعلام التى ترفض الاستكانة و الصمت.

صمت الرئيس التركي العاجز

لعل الملفت للانتباه هذه المرة أن الرئيس التركي قد لاذ بالصمت مكتفيا ببعض التصريحات المملة و المكررة و التى زادت فى تصاعد منسوب الاحتقان و النفور و العنف مما يقيم الدليل أن الرجل قد فقد نفوذه و سطوته و تأثيره على الشارع، هذا الشارع الذى ينادي بصوت عال بإسقاط الحزب الحاكم و محاسبة قياداته و رحيل رجب أوردغان عن السلطة بصفة نهائية.

يجمع الملاحظون اليوم أن الرئيس التركي المترهل قد بات ينظر بعين الفزع و الخشية إلى إسطنبول تحترق و هو صامت صمت العاجزين لا يقول شيئا كأنه فقد لسانه الذى طالما نطق به بهتانا و نفاقا خاصة فى علاقة بمزاعم إسناده و مساندته للقضية الفلسطينية.

فى تركيا لم يكن مسموحا لا بحرية التعبير و لا بمعارضة السلطة القائمة و لا بنشر معلومات عن حالة الفساد و الرشوة و تنامي ظاهرة العنف و توزيع المخدرات و تجارة الرقيق الأبيض و بيع الاسلحة كما أنه ليس مسموحا للمعارضة بتنظيم الاجتماعات أو حضور نقاشات فى  بعض وسائل الإعلام الرسمية التركية و حين يقوم النظام بحلّ مجلس نقابة المحامين بتهمة الدعاية الإرهابية و حين يخرج السيد عبد الله غول الرئيس التركي السابق و رفيق درب الرئيس التركي الحالى منذ ساعات منتقدا عملية إيقاف رئيس بلدية إسطبول السيد أكرم إمام أوغلو الذى اعتبرها عملية انتقامية غير بريئة تضر بالأمن القومى التركي فتلك علامات مفصلية  تؤكد للمتابعين أن رئيس الدولة و رئيس الحزب الحاكم قد بات على قاب قوسين أو أدنى من الانهيار و السقوط خاصة و أن نسق المظاهرات  قد اتسع بشكل غير مسبوق فاق قدرة كل التعزيزات الأمنية و العسكرية خاصة فى الساعات التى تلت عملية إيقاف عمدة ‘سطبول أكرم إمام أوغلو الذى دعا المتظاهرين للنزول بكثافة للشارع للتعبير عن سخطهم عن النظام و المطالبة برحيله.

الصمت المريب لقناة الجزيرة الإخوانية

يعدّ صمت قناة الجزيرة و ارتباكها و تعمدها التعتيم أكثر من الإمكان على ما يحصل فعلا فى تركيا إشارة  نوعية قوية على أن النظام الإخواني التركي يترنح بفعل تصاعد الاحتجاجات الشعبية و انتشارها فى كل المدن و القرى التركية و حين نعلم حجم التغطية الهائلة للوضع السوري سوى فى عهد الرئيس بشار الأسد أو الرئيس الحالي أحمد الشرع فإن السؤال المنطقي يتعلق عن أسباب عدم تخصيص نفس الحيز الزمني أو أكثر للوضع المفجر فى تركيا خاصة بعد  تسرب صورة المظاهرات المليونية الحاشدة فى إسطنبول و سماع شعارات المتظاهرين المنادية برحيل الطاغية رجب طيب أوردغان و زبانية حزبه و حكومته الإخوانية الفاشلة.  

من الواضح أن الدول الأوروبية  تلاقي صعوبة كبرى فى فهم مسار ريح المظاهرات منتظرة أن  يسقط نظام يعلم الجميع مدى استهتاره بالقيم الإنسانية و من الواضح أنه لا أحد من زعماء  هذه الدول يريد أن يتورط فى هذه الرمال المتحركة و أن يعطي جرعة من الهواء لجسم تركي مترهل يعانق الرمق الأخير و يشارف على الفناء و الرحيل غير مأسوف عليه.

حين فاز السيد أكرم إمام أوغلو العام الماضي بمنصب عمدة اسطنبول شكل ذلك الانتصار التاريخى المدوي صدمة كبرى فى أوساط حزب العدالة و التنمية الحاكم و رغم إقرار الرئيس التركس الحالي بصدمة الهزيمة الثقيلة التى تلقاها حزبه و إعلانه كونه سيقوم بالمراجعات السياسية اللازمة لمعرفة أوجه القصور فى الأداء فى تلك الانتخابات المفصلية و محاسبة المسؤولين عنها فقد أشار المحللون أن تلك الصدمة هي بداية عملية العد العكسي لسقوط حزب الرئيس و أن ما قبل انتصار عمدة ‘سطنبول الجديد لن يكون كما بعده و لهذا تأتى هذه المظاهرات الكبرى الواسعة فى كامل ربوع تركيا لتؤكد شعبية عمدة إسطنبول و قدرته على تجميع أصوات المعارضة و إنزالها للشارع بهذا الزخم الذى فاجأ نظاما استنفذ كل الحيل و المؤامرات و بات موضع اتهام من كل المناضلين فى الداخل و الخارج.

اليوم تحترق اسطنبول و يقف رجب طيب أوردغان مشاهدا ألسنة الحريق تتصاعد تماما كما فعل الطاغية نيرون عند حريق روما سنة 64 ميلادية و التاريخ لا يزيد عن الإخبار و فى باطنه نظر و تحقيق.

كاتب و ناشط سياسى.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.