التضخم في تونس : بين التراجع المعلن والأزمة البنيوية

وفق المعطيات الرسمية، تراجع معدل التضخم في تونس إلى 5.7% في فيفري 2025، وهو أدنى مستوى منذ جوان 2021. ولكن هل يعكس هذا التحسن واقعا اقتصاديا حقيقيا، أم أنه مجرد وهم نيوليبرالي تخفي وراءه الدولة فشلها في حل الأزمة البنيوية للاقتصاد؟

رياض الشرايطي

التضخُّمُ وحشٌ يلتهمُ العرقْ
يأكلُ خبزَ الفقراءِ بلا ورقْ
ويتركُ جيوبَ البُسطاءِ خواءً
كأنَّ الزمانَ على رأسِهم احترقْ

التضخم ليس مجرد رقم، بل نتيجة لصراع بين رأس المال والعمل، بين الدولة البرجوازية والجماهير الكادحة. فالاقتصاد البرجوازي التّابع يقدّم التضخم كمؤشر تقني بحت، متجاهلا جذوره الاجتماعية والسياسية. لكن كما يؤكد كارل ماركس: “الرأسمالية لا تهتم إلا بالربح، أما العمال فهم مجرد وسائل للإنتاج.”

في هذا السياق، سياسات البنك المركزي التونسي ليست موجهة لحماية الشعب من التضخم، بل لضمان استقرار رأس المال على حساب الأجور والمعيشة.

ففي الواقع، انخفاض التضخم لا يعني أن الأسعار قد انخفضت، بل فقط أن وتيرة ارتفاعها قد تباطأت. وهذا ناتج عن أسباب مثل 1- تقلص القدرة الشرائية : عندما لا يكون لدى الجماهير مال كاف لشراء السلع، يضطر السوق إلى التباطؤ، مما يقلل الطلب وبالتالي يخفّف التضخم. 2- انكماش الاستهلاك العام : بحسب الاقتصادي جون مينارد كينز: “عندما يتقلص الطلب، يتوقف الاستثمار، ويبدأ الاقتصاد في التباطؤ.”

ركود تضخمي وارتفاع نسب الفقر

ما يحدث في تونس هو نتيجة ركود تضخمي فالأسعار ما زالت مرتفعة، لكن الاستهلاك يتراجع بسبب الفقر، مما يؤدي إلى شلل اقتصادي.

هذا ما أدى إلى رفع البنك المركزي سعر الفائدة إلى 8% بحجة محاربة التضخم، ولكن من يستفيد من ذلك؟

الرأسمالية المالية (المصارف والمضاربون) تستفيد من الفوائد المرتفعة، بينما العمال والفقراء يعانون من القروض الغالية وصعوبة الاستثمار. فكما يقول جوزيف ستيغليتز: “السياسات النقدية النيوليبرالية تفضل المستثمرين الكبار على حساب المستهلكين الصغار.”

وهذا ما يحدث في تونس، يتم سحق صغار المستثمرين والمستهلكين تحت وطأة القروض الباهظة والركود الاقتصادي. فالاقتصاد التونسي يعيش أزمة تراكم رأسمالي متعثر، حيث لا يتم إنتاج القيمة داخليا بل يتم استيرادها عبر القروض والامتيازات الأجنبية. وكما قال سمير أمين: “الرأسمالية الطرفية لا تنتج، بل تستهلك ما لا تملكه وتدين نفسها إلى الأبد.”

السياسات الاقتصادية في تونس لم تؤسس لإنتاج وطني مستقل، بل جعلت البلاد رهينة للاستعمار الجديد من خلال الديون و الشركات الراسمالية العابرة للقارات. فالدولة التونسية، مثل غيرها من دول الجنوب، تتبع وصفة صندوق النقد الدولي التي تقوم على: 1- رفع الضرائب على الطبقة العاملة بدل فرض ضرائب تصاعدية على الأثرياء. 2- تقليص الدعم الاجتماعي، مما يفاقم التفاوت الطبقي. 3- خصخصة القطاعات الحيوية (الصحة، التعليم، النقل)، مما يحوّل الخدمات العامة إلى امتيازات للأغنياء فقط.

اقتصاد في موقع التبعية

لكن كما يقول توماس بيكيتي: “التقشف ليس حلا للأزمة، بل هو وسيلة لنقل الثروة من الطبقات الفقيرة إلى الغنية.”
وهذا بالضبط ما يحدث في تونس: الدولة تفرض التقشف على الشعب، بينما تواصل منح الامتيازات لرأس المال الأجنبي والمحلي. ولذلك لا تستطيع تونس الخروج من الأزمة نظرا لغياب السيادة الاقتصادية ، فالاقتصاد التونسي مرتبط بالاقتصاد الأوروبي من خلال اتفاقيات تجارية غير متكافئة. وكما قال المفكر الماركسي إيمانويل والرشتاين:
“الرأسمالية العالمية تنظم الفقر بنفس الطريقة التي تنظم بها الثروة.” بمعنى أن تونس ليست “حرة” في رسم سياساتها الاقتصادية، بل خاضعة لقواعد السوق العالمية التي تجعلها دائما في موقع التبعية.

إضافة إلى ذلك ضعف الطبقة العاملة وتنظيمها فمنذ العقود و خاصة في العشرية الأخيرة ، تم استهداف العمل النقابي و المنظمة الشغيلة، مما جعل العمال و منظمتهم، التى تعيش في دوامة صراعات داخلية همّشت بدورها دورها، عاجزين على التحرك العام و الضغط في اتجاه فرض بديل اقتصادي أكثر عدالة. وكما يقول غرامشي: “الأزمة تحدث عندما يموت القديم، ولكن الجديد لم يولد بعد.” بمعنى أن تونس تعيش اليوم مرحلة تفكك للنظام الاقتصادي القديم دون وجود رؤية واضحة لمستقبل بديل. و السّؤال ، ما العمل ؟ و الجواب انه لا بديل عن تأميم القطاعات الاستراتيجية: 1- بعدم خصخصة القطاعات الحيوية (الفوسفات، الطاقة، البنوك) و ارجاعها إلى الدولة. 2- استثمار الأرباح في البنية التحتية والصحة والتعليم بدل تحويلها إلى أرباح خاصة. 3- إعادة توزيع الثروة من خلال الضرائب التصاعدية. 4- فرض ضرائب أعلى على الأثرياء والشركات الكبرى. 5- إلغاء الامتيازات الضريبية للرأسمال الأجنبي.6- استخدام العائدات في تمويل مشاريع اجتماعية للفقراء والعاطلين عن العمل. 7- إصلاح النظام النقدي والمالي, 7- تقليل الاعتماد على القروض الأجنبية التي تجعل تونس رهينة للدولار واليورو. 8- إنشاء عملة رقمية وطنية لتمكين الدولة من التحكم في تدفق الأموال داخل الاقتصاد.

سياسات تخدم رأس المال على حساب العمال

انخفاض التضخم في تونس ليس علامة على تعاف اقتصادي، بل دليل على ركود أعمق سببه السياسات النيوليبرالية والتقشفية التي تخدم رأس المال على حساب العمال. كما قال ماركس في “رأس المال”: “الأزمة ليست مجرد خلل اقتصادي، بل لحظة تكشف فيها تناقضات الرأسمالية بشكل لا يمكن إصلاحه.”

الحل لا يكون في الاستمرار بنفس السياسات الفاشلة، بل في بناء نظام اقتصادي يضع حاجات الشعب فوق أرباح الرأسمالية العالمية.

شاعر و مناضل سياسي و حقوقي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.