رحلة في أعمال الروائي الجزائري عبد العزيز غرمول

في عالم يتأرجح بين آلام الماضي وآمال المستقبل، حيث تتداخل الذاكرة والأمل وتغفو الحكايات على أعتاب الأجيال، وُلد عبد العزيز غرمول في السابع عشر من نوفمبر 1958. لم يكن مجرد كاتب يحمل قلمًا ليخط كلمات، بل كان روحًا حية تمشي على هذه الأرض، تبحث عن أصداء الحقيقة بين الحروف وسكون الزمن.

جمال قتالة

وُلد غرمول في الجزائر التي كانت ولا تزال تنبض بالذكريات والآمال المكسورة، فتفتحت عيناه على واقع مليء بالتناقضات، فكان لا بد له أن يروي هذا الواقع، لا من خلال الكلمات فحسب، بل من خلال قلب ينبض بالحياة، حزينًا أحيانًا، ومتفائلًا في أحيان أخرى.

في سيرة عبد العزيز غرمول، تجد أن الرجل لم يكن ابنًا للتعليم التقليدي، بل كان ابنًا للفكر العميق الذي يتحدى السطحية ويبحث في أعماق الأشياء. وعندما بلغ سن السنة الثالثة من التعليم المتوسط، كان قد بدأ في 1973 و1974 في نشر مقالاته الأولى، التي عكست بصدق أفكاره وتصوراته حول الجزائر، شعبها، وتاريخها. كان يبحث عن نفسه بين السطور، وكانت الكتابة بالنسبة له أكثر من مجرد وسيلة للتعبير، كانت طريقًا لاكتشاف الذات والواقع.

في تلك السنوات، بين 1973 و1980، كتب غرمول العديد من القصص القصيرة التي نشرت في مجلات أدبية مثل “أمل” وغيرها من المجلات العربية. كانت تلك القصص بمثابة جسر يربط بين الحلم والواقع، بين الماضي والحاضر، وبين الفرد والجماعة. حملت كلمات غرمول في طياتها تمردًا على السكون، ورغبة في إحداث التغيير، وتوجيه الأسئلة المعلقة في فضاء الجزائر الذي كان يعج بالتحولات السياسية والاجتماعية.

رحلة في قلب الجزائر

لكن غرمول لم يكن ليرضى بأن تقتصر حياته على عالم الصحافة فقط، رغم أنها كانت له نافذة يرى من خلالها العالم. فقد كانت الصحافة بالنسبة له مجرد خطوة أولى، وهو الذي كان يسعى دائمًا إلى ما هو أوسع وأعمق. فقرر أن يخوض غمار الأدب، ليغني عالمه بالكلمات التي لا تعرف الحدود، وليخوض رحلة فكرية وروحية في عالم الرواية.

كانت رواياته، بدءًا من “مقامة ليلية” (1982)، ثم “حارة طرف المدينة” (1992)، و “رسول المطر” (1993)، بمثابة محطات فاصلة في مسيرته الأدبية، حيث خلط فيها بين التراث والحداثة، بين القص والحكاية، وبين الواقع والتخيل.

لم تكن تلك الروايات مجرد أعمال أدبية، بل كانت مساحات للتأمل في الزمن والمكان، في الماضي والحاضر. كان غرمول يمزج بين الأسلوب السردي المحكم، واللغة التي تتسلل إلى الأعماق، لتفتح أمام القارئ أبوابًا جديدة لفهم معاني الحياة، الوطن، والانتماء.

لكن من بين رواياته التي حظيت بشهرة واسعة وقرّاء كبار نجد: “زعيم الأقلية الساحقة” (2005)، التي تحركت في فضاء سياسي مشحون. هناك، تتداخل مفاهيم السلطة والتغيير في قصة تنبش في أعماق السياسة الجزائرية، وتعكس بصراحة ووضوح تجليات السلطة في المجتمع الجزائري.

أما رواية “مصحة فرانز فانون” (2018) فهي تحمل إلهامًا من أعمال فرانز فانون، المفكر الثائر الذي تناول الهوية والاستعمار من زاوية فلسفية، ليعيد غرمول صياغة الأسئلة الوجودية في سياق جزائري خاص. في هذه الرواية، يُبحر غرمول في أعماق التاريخ، ليكتشف جراح الذاكرة التي تركها الاستعمار، في محاولة لتضميدها من خلال العلاج الجماعي والاعتراف بالجرح المشترك.

عندما يلتقي القلم بالفعل

من خلال أعماله الأدبية، لم يكن غرمول مجرد كاتب يعيش في برج عاجي بعيد عن واقعه، بل كان يدرك أن الأدب لا يمكن أن يكون حيًا ما لم يكن مرتبطًا بقضايا المجتمع وهمومه. لقد عرف أن الكاتب لا يمكن أن يظل محصورًا في مملكة الكلمات وحدها، بل يجب أن يكون له دور في تغيير الواقع أيضًا.

في 1998، تولى غرمول مسؤولية التنظيم في اتحاد الكتاب الجزائريين، ليضع نفسه في قلب المشهد الثقافي والسياسي. لم يكن في ذلك المنصب مجرد شخصية ثقافية، بل كان يحمل بين يديه مسؤولية كبيرة، وهي فتح أبواب جديدة للكتّاب والمبدعين في الجزائر. وفي 2005، تولى رئاسة الاتحاد ليواصل دوره في التأثير على المشهد الثقافي والفكري.

لم يكن غرمول يبحث عن الشهرة أو السلطة بقدر ما كان يسعى لتغيير الحياة الثقافية والسياسية في بلاده، ليمنح الأدب قيمته الحقيقية في مجتمع يُعاني من التحديات. كانت رؤيته للأدب بمثابة محفز لإعادة صياغة القيم الفكرية، وتحقيق توازن بين الثقافة والسياسة في الجزائر.

الكلمات التي لا تموت

اليوم، وبعد مسيرة حافلة من الكتابة والنضال الفكري، يظل عبد العزيز غرمول واحدًا من أبرز الكتاب والمفكرين في الجزائر. أعماله لم تكن مجرد إبداع أدبي، بل كانت دعوة للبحث عن الحقيقة والحرية، للوقوف في مواجهة الواقع، والتفكير في معاني الحياة والموت. 12 كتابًا قدمها غرمول للعالم، لتكون بمثابة إرث ثقافي لا يقدر بثمن، تحمل في طياتها أشكالًا من التحليل النقدي، التأمل الفلسفي، وتوثيق الواقع الجزائري بكل تناقضاته.

كتب غرمول لكي يضعنا أمام أسئلة قد نخشى طرحها، ليحفزنا على التفكير في حياتنا، وفي وطننا، وفي الزمن الذي نعيشه. لم يكن يريد أن يُملي علينا أجوبة جاهزة، بل أراد أن يفتح لنا نوافذ جديدة نطل من خلالها على عوالم مجهولة، لنفهم أنفسنا والعالم من حولنا.

عبد العزيز غرمول كان، وسيظل، كاتبًا لا تموت كلماته، بل تظل حية، تتنفس بين السطور، وتدعو الأجيال القادمة إلى أن تكتب تاريخها الخاص، وأن تعيش حريتها بصدق وشجاعة.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.