قراءة سريعة لوضع تركيا وهي في قلب العاصفة

تشهد تركيا اليوم موجة احتجاجات واسعة تعكس تصاعد الصراع الطبقي ضد نموذج الدولة السلطوية النيوليبرالية الذي أسسه رجب طيب أردوغان. هذه الاحتجاجات ليست مجرد رد فعل على اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، بل تعكس تفكك شرعية النظام الحاكم في ظل أزمة اقتصادية خانقة، قمع سياسي متزايد، وتفاقم التفاوت الطبقي. وفي هذا السياق، تنبع الاحتجاجات من تراكمات طويلة من الفشل الاقتصادي، والاستبداد السياسي، وفشل السياسات النيوليبرالية التي جعلت الطبقات الفقيرة والعمالية تتحمل العبء الأكبر من هذه الأزمات.

رياض الشرايطي


التحليل هنا يتناول الجذور الطبقية والاقتصادية لهذه الأزمة، ويفكك دور الإمبريالية العالمية في ترسيخ نموذج الدولة القمعية في تركيا، كما يعرض احتمالية تشكل تحالف جديد بين القوى اليسارية، العمال، والأكراد ضد النظام القائم.

1- أسباب اندلاع الاحتجاجات: انهيار النموذج النيوليبرالي


أ. الأزمة الاقتصادية الخانقة

السبب الرئيسي وراء تصاعد الغضب الشعبي هو التدهور السريع للاقتصاد التركي الذي يعاني من عدة عوامل متشابكة:

– التضخم الجامح الذي تجاوز 70٪، والذي جعل القدرة الشرائية للمواطنين تتراجع بشكل كبير. ولم تقتصر تداعيات التضخم على المنتجات الاستهلاكية اليومية فقط، بل امتدت لتشمل الطاقة، المواد الغذائية، والمسكن، مما جعل الطبقات الفقيرة في حالة من العوز المستمر.

– تراجع قيمة الليرة أثر بشكل مباشر على المواطنين، حيث فاقمت من معاناتهم جراء ارتفاع أسعار السلع المستوردة، وكذلك بسبب الاعتماد الكبير على الواردات في قطاع الإنتاج المحلي. لذلك، أصبح من غير الممكن على الغالبية العظمى من السكان مواجهة هذه التقلبات الاقتصادية، مما زاد من مشاعر الإحباط والغضب تجاه الحكومة.

– الديون الخارجية الضخمة التي أثقلت كاهل الاقتصاد التركي: حيث أصبح الإنفاق الحكومي على سداد هذه الديون يشكل عبئًا إضافيًا على الموازنة العامة للدولة، في وقت كان من المفترض أن تركز فيه الحكومة على تحقيق التنمية الداخلية. في المقابل، كان على الحكومة تطبيق إجراءات تقشفية قاسية تشمل تقليص الدعم الحكومي للطبقات الفقيرة، مما أدى إلى تفاقم الوضع المعيشي للمواطنين.

ب. القمع السياسي وتصاعد الاستبداد

منذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، شنت الحكومة التركية حملة قمعية شاملة ضد جميع أشكال المعارضة، لتسحب السلطة بشكل كامل من المؤسسات الديمقراطية:

– سيطرة مطلقة على القضاء، الإعلام، والجيش: أصبح القضاء في تركيا أداة طيعة في يد السلطة التنفيذية، بينما تم قمع الإعلام الحر عبر اعتقال الصحفيين المستقلين. وتزامن هذا مع تعزيز سلطات أردوغان في الجيش، مما جعل أي معارضة سياسية غير ذات جدوى.

– تجريم النشاط النقابي والسياسي: تم تفكيك النقابات العمالية المستقلة، وواجه قادتها تهماً سياسية تُفضي إلى السجن. كما أصبح الانتماء إلى أي حركة سياسية معارضة يُعرض الشخص للتهديد والملاحقة القضائية.

– سجن مئات الصحفيين والناشطين: أظهرت التقارير الدولية أن تركيا تُعد من أكبر الدول في عدد الصحفيين المعتقلين، في سياق من القمع غير المسبوق لحرية التعبير. هذه السياسة القمعية جعلت الحكومة تعيش في فقاعة إعلامية موازية للواقع الاقتصادي الذي يعانيه الشعب.

ج. استهداف المعارضة الديمقراطية

شهدت الفترة الماضية تصاعد الحملة ضد المعارضة السياسية، وخاصة حزب الشعب الجمهوري وبلدياته التي تم تجريدها من سلطاتها. اعتقال رؤساء بلديات منتخبين ديمقراطيًا أصبح يمثل أحد أساليب القمع الجديدة للنظام الحاكم ضد القوى التي قد تشكل تهديدًا سياسيًا له.

تم إقصاء الأحزاب الكردية مثل حزب الشعوب الديمقراطي، حيث تم تجميد نشاطات العديد من أعضائها واتهامهم بالإرهاب. وتُعتبر هذه الخطوات جزءًا من جهود أردوغان لتوحيد الشعب التركي على أساس قومي، مما يعمق الخلافات مع القوى الكردية، ويُعرض الأكراد لمزيد من القمع الوحشي.

زيادة الرقابة على الإنترنت: بدأت الحكومة في استخدام أدوات تكنولوجية لفرض الرقابة الشاملة على الإنترنت، والحد من حرية التعبير على منصات التواصل الاجتماعي، ما جعل تنظيم الاحتجاجات الشعبية أكثر صعوبة، لكنه في ذات الوقت ساهم في تعميق الوعي الجمعي ضد الحكومة.

هامش : من هو أكرم إمام أوغلو؟

أكرم إمام أوغلو هو سياسي تركي ينتمي إلى حزب الشعب الجمهوري المعارض. تولى رئاسة بلدية إسطنبول في عام 2019 بعد فوزه الكبير في انتخابات البلدية، حيث فاز ضد مرشح حزب العدالة والتنمية، وهو ما أدى إلى دخول حزب العدالة والتنمية في حالة من الصدمة. تم اعتقاله مؤخرًا بتهم سياسية أرجعها أنصاره إلى محاولة إزاحته من الساحة السياسية كأحد أبرز أعداء أردوغان. هذا الاعتقال شكل الشرارة الأولى للاحتجاجات الحالية، حيث اعتبر أنصاره أن القضية تتجاوز مجرد التهم القانونية، وأنها تأتي في سياق محاولة لتصفية أي تهديد حقيقي للسلطة القائمة.

2- القوى الفاعلة في الاحتجاجات: هل نشهد ميلاد تحالف ثوري؟

أ. العمال والفقراء في مقدمة الحراك

في هذه الاحتجاجات، يلعب العمال والفقراء دورًا رئيسيًا في الحراك الشعبي:

الإضرابات العمالية شهدت ارتفاعًا ملحوظًا في مختلف القطاعات الإنتاجية، بما في ذلك قطاع التصنيع والبناء، نتيجة لانخفاض الأجور وتدهور الظروف المعيشية.

بدأت الطبقة المتوسطة المحافظة، التي كانت تؤيد الحكومة في السابق، في التراجع عن دعمها بسبب تأثير الأزمة الاقتصادية. حتى هذه الطبقات بدأت تدرك أن الاستقرار السياسي الذي يروج له النظام هو في الواقع قمع وإفقار للجميع.

ب. دور اليسار التركي في الحراك

رغم القمع الشديد، بدأت الحركات الشيوعية والاشتراكية في إعادة تنظيم صفوفها، عبر تشكيل جبهة يسارية موحدة تضم مختلف التوجهات الراديكالية، كما تم تنسيق الإضرابات العمالية والاحتجاجات الطلابية.

التيارات الاشتراكية تحاول تعميق الوعي الطبقي بين الجماهير الشعبية، وهي بذلك تسعى لإقناع الطبقات الفقيرة والعمالية بأن النظام القائم هو أداة لخدمة مصالح الشركات الكبرى، ويجب تحطيمه من خلال نضال طبقي مستمر.

ج. الأكراد ودور حزب العمال الكردستاني

لطالما تعرض الأكراد في تركيا إلى قمع شديد من الدولة التركية، إلا أن هذا الحراك قد يمنحهم فرصة للتحالف مع القوى المعارضة الأخرى ضد النظام القائم.

على الرغم من أن حزب العمال الكردستاني لم يظهر بشكل مباشر في الاحتجاجات، إلا أن دوره محوري في زعزعة استقرار النظام، من خلال تحريضه للطبقات المهمشة على مقاومة النظام، وزيادة الضغط على الدولة.

3- دور القوى الإمبريالية: الغرب والنظام التركي بين التواطؤ والتلاعب

أ. أوروبا والولايات المتحدة: حماية النظام باسم الاستقرار

تركيا تعد داعمًا رئيسيًا للسياسات الغربية في الشرق الأوسط، خاصة في ملف الهجرة حيث تستقبل ملايين اللاجئين. وفي الوقت نفسه، تستفيد الشركات الأوروبية من العمالة الرخيصة في تركيا، مما يجعلها حليفًا استراتيجيًا للغرب.

الولايات المتحدة تدرك أن أي انهيار محتمل للنظام قد يخلق فراغًا سياسيًا قد يملؤه اليسار التركي أو حركات قومية قد تضر بالمصالح الغربية.

ب. روسيا والصين: دعم استقرار النظام لخدمة المصالح الجيوسياسية

رغم التوترات بين موسكو وأنقرة، فإن بوتين لا يرغب في انهيار تركيا، بل يسعى لاستخدام أردوغان كورقة ضغط ضد الغرب من جهة، ولتعزيز مصالحه الجيوسياسية في المنطقة من جهة أخرى.
الصين أيضًا تعتبر تركيا جزءًا من مبادرة الحزام والطريق، وتحافظ على دعمها للنظام لضمان استمرار استثماراتها في تركيا.

4- السيناريوهات المحتملة: هل تسقط الدولة السلطوية؟

أ. القمع العنيف واحتواء الاحتجاجات

إذا تمكن أردوغان من استخدام الجيش والشرطة لسحق الانتفاضة، فقد يبقى في الحكم، لكن سيؤدي هذا إلى خسارة كاملة لشرعيته، ويعزز من فجوة الثقة بين الشعب والحكومة.

ب. تصاعد الحراك وتحوله إلى ثورة شعبية

إذا استمرت الإضرابات والتظاهرات العمالية ونجحت المعارضة في توحيد صفوفها مع الأكراد والقوى اليسارية، فقد يكون هناك انفجار شعبي غير مسبوق يؤدي إلى إسقاط النظام، لكن هذا السيناريو يتطلب تنسيقًا قويًا وقيادة موحدة.

ج. تفكك حزب العدالة والتنمية

قد نشهد انقسامات داخل الحزب الحاكم في حال تعرضه لضغوط سياسية شديدة، وهو ما قد يؤدي إلى تحولات داخلية في السلطة، ولكن هذا لن يؤدي بالضرورة إلى تغيير جذري في النظام.

هل تكون هذه بداية نهاية النظام؟

تركيا اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تنجح الطبقة العاملة والقوى الشعبية في إسقاط النظام النيوليبرالي السلطوي، أو أن يتمكن النظام من قمع الحراك مؤقتًا. لكن في كل الأحوال، أصبح النظام التركي في أزمة وجودية عميقة، وما يهم هو إرادة الشعب في تنظيم صفوفه ورفض أي حلول ترقيعية تقدمها الحكومة، إذ أن التحول الديمقراطي الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر نضال طويل ومستمر ضد النظام السلطوي.

شاعر و محلل سياسي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.