غيّب الموت صباح أول أمس، الأحد 30 مارس 2025م نجل شاعر تونس الخضراء، أبو القاسم الشابي والمسؤول السابق في جهاز دولة الاستقلال، المهندس والمدير جلال الشابي. وقد أقيم موكب الدفن بمقبرة الشابية بتوزر يوم أمس الإثنين 31 مارس 2025 الموافق لأول أيّام عيد الفطر/ 1 شوّال 1446هـ، بحضور زوجته وابنتيه وآل الشابي وأصدقاءه يتقدمهم رئيس “جمعيّة الشابي للتنمية الثقافية والاجتماعية”، المهندس عبد الله الشابي.
أ.د عادل بن يوسف

وبهذه المناسبة الأليمة وبحكم العلاقة التي ربطتني به منذ سنوات عبر الصديقين محمّد الضحاك الشابي رحمه الله وطيّب الله ثراه والمهندس عبد الله الشابي حفظه الله، اللذان رتبا لقائي به في بيته بالحمّامات الجنوبية، لإجراء حوار إذاعي ببرنامجي “شهادات حيّة”، تمّ بثه على أمواج إذاعة المنستير في حلقتين يومي الأحد 14 و 21 جويلية 2019. ومنذ ذلك اللقاء توطّدت العلاقة بيننا بالهاتف وعبر البريد الالكتروني. فكان كل يهاتفني من ألمانيا إبّان جائحة الكوفيد في المناسبات والأعياد للمعايدة أو دعوتي لزيارته ببيته في الحمامات إثر عودته من ألمانيا بعد انقضاء الجائحة للحديث عن أثر من آثار والده أو جديد بحوثه حوله… .
و إنصافا للرجل واعترافا بما قدمه من خدمات جليلة لدولة الاستقلال والقطاع الصناعي تحديدا ولذاكرة والده، شاعر تونس الخالد، أتولى نشر هذه البيوغرافيا المتواضعة للتعريف بالرجل ومسيرته المهنية والبعض من خصاله وانجازاته على رأس البعض من مؤسّسات الدولة الوطنيّة.
البيئة التي نشأ فيها ودراسته:
ولد المهندس جلال الشابي يوم 05 جانفي1934 بقرية الشابية بتوزر وسط أسرة مثقفة تُجلّ التعليم والفكر والثقافة أصيلة قرية الشابية بتوزر. كان جده محمّد الشابي قاضيا بالمحاكم التونسية وعمل بعديد المدن زمن الاستعمار إلى غاية وفاته في 8 سبتمبر 1929. فقد والده شاعر تونس الخالد أبو القاسم الشابي في 09 أكتوبر 1934 وهو لم يتخطّ التسعة أشهر، فيما لم يتخطّ شقيقه محمّد الصادق (خريج “دفعة بورقيبة” من مدرسة سان سير الحربية بفرنسا سنة 1957)، الأربع سنوات، فتولّى عمّهما الأمين الشابي (أستاذ اللغة والآداب العربية والنائب بالمجلس القومي التأسيسي فكاتب الدولة للتربية والمعارف مطلع الاستقلال) رعايتهما رفقة أمّهما شهلاء الشابي. وقد اختار له والده اسم جلال لتأثره الكبير بالشاعر والفيلسوف الصوفيّ الفارسي المستقرّ بتركيا، “مولانا” جلال الدين الرومي (30 سبتمبر 1207-17 ديسمبر 1273م) وبشعره وفكره.
زاول دراسته الابتدائية بالمدرسة الفرنسة العربية بتوزر في نفس القسم مع ابن دفعته، علي الشابي (الذي سيصبح لاحقا شاعرا فأستاذا وعميدا ورئيسا لجامعة الزيتونة فوزيرا للشؤون الدينية وباحثا ومحقّقا مهتما بالصوفية والحركة الشابية…) ثمّ بالفرع الصادقي والثانوية بالمدرسة الصادقية. وإثر حصوله على شهادة البكالوريا شد الرحال نحو باريس حيث درس بالمدرسة المركزية بباريس (L’Ecole Centrale de Paris) و أجرى عديد التربصات بمناجم ومصانع فرنسية ليتحصّل منها في جوان 1963 على الديبلوم الوطني للهندسة.
مهندسا في خدمة الدولة الوطنيّة:
فور عودته إلى تونس التحق المهندس جلال الشابي بالشركة التونسية لصناعة الفولاذ (المحدثة سنة 1962) برتبة مهندس. ولتطوير الشركة وتعصير أساليب العمل بها، تمّ إرساله لإجراء تربصات بكل من فرنسا والنمسا وألمانيا في مجال صناعة التعدين، كُلّف على إثرها بإدارة الإنتاج. وبفرنسا حيث تعرّف على شريكة حياته الآنسة الألمانية بترا بوهام (Petra Bohême) التي رافقته إلى تونس وأنجب منها بنتين، إيناس وسميرة.
وفي سنة 1969 ونتيجة المضايقات التي لقيها بهذه الشركة الوطنيّة عاد ثانية إلى فرنسا للعمل لمدة سنتين بإحدى المؤسّسات الفرنسية الكبرى للتعدين. وفي سنة 1971 التحق بشركة المعادن المتحدة المحدثة بمقرين بخطة مدير إنتاج وذلك إلى غاية سنة 1980 حيث تصدّرت الشركة المؤسّسات الوكنية محققة أرباحا خيالية ومراتب مشرفة على الصعيدين الوطني والدولي. وفي نفس السنة وعلى إثر المشاكل التي تعرّض لها من قبل المديرين العامين للشركة وبعد حصوله على قرض من صندوق التنمية الصناعية، بعث لحسابه الخاص شركة “STIFF” المختصة في صناعية نوافذ الإغلاق.
الانسانيّ والحافظ لذاكرة وتراث والده
شأنه شأن والده، عُرف الفقيد باستقامته ودماثة أخلاقه ومواقفه الانسانية وخدمته للجميع والصالح العام وعمله في صمت وانفتاحه على الآخرين وخاصة وطنيّته وحساسيته اللتان لا يشقّ لهما غبار، فكان محلّ احترام كل من عمل معه وعرفه من قرب أو بعيد من إطارات وأعوان وعمّال وأقارب من آل الشابي وأصدقاء بكل من تونس وألمانيا وفرنسا… أو بالخارج.
و ايمانا منه بضرورة حفظ ذاكرة والده، تولّى الفقيد جمع ما تبقى من كتابات وأشعار والأمتعة الخاصة بشعر وتراث والده أبو القاسم الشابي وآل الشابي عامة. كما عبّر لنا في الحوار الاذاعي الذي أجريناه معه في صائفة 2019 عن رغبته في أن يتولى وزير الثقافة (الدكتور محمّد زين العابدين حينئذ) تسلّمها منه ووضعها في مؤسّسة الأرشيف الوطني على ذمّة الباحثين والمختصّين.
ومنذ تأسيسها في مارس 2013، انضمّ جلال الشابي إلى “جمعيّة الشابي للتنمية الثقافية والاجتماعية” (جمعيّة تهدف إلى المحافظة على الموروث الثقافي للأسرة الشابية بتونس وبالجزائر وليبيا وتطوير السياحة بجهة توزر… وذلك بإلقاء المحاضرات وتنظيم ندوات وملتقيات فكرية وطنية ودولية، داخل تونس وخارجها)، التي تولّى رئاستها الشرفية، رفيقه في الدراسة بمدرسة توزر، الدكتور علي الشابي. وقد تعاون مع رئيسها، المهندس عبد الله الشابي بوضع مآثر والده من أشعار وكنّشات ومراسلات… لتحقيقها ونشرها وأغراض خاصة من أقلام وأوراق وأدباش… للتعريف بها.
رحم الله الفقيد جلال الشابي وأسكنه فراديس جنانه ورزق زوجته “بترا بوهام” وابنتيه إيناس وسميرة وأحفاده وكامل أفراد أسرته وأصدقائه، جميل الصبر والسلوان. إنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى.
أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة سوسة وإعلاميّ.
شارك رأيك