كيف نقرأ بورقيبة اليوم؟

في مثل هذا اليوم، منذ خمسٍ وعشرين سنة، غاب عنا الحبيب بورقيبة، زعيمٌ من طينة الكبار، زعيمٌ خطَّ التاريخ بمواقفه، وزرع الأمل في قلوب شعبه، وقاد الوطن بحكمة وإخلاص في حقبات مفصليّة. إن رحيله لم يكن نهاية لحضوره، بل بداية لمسؤوليتنا في حفظ الإرث، وصون المبادئ التي عاش لأجلها.

العقيد محسن بن عيسى


طموح بورقيبة وأحلامنا

أعتبر نفسي وقد تجاوزت السبعين سنة نتاج مشروع بورقيبة الاجتماعي والتربوي. كنت مثل كثير من أبناء جيلي من الطبقة الوسطى الكادحة، ولكن بفضل ديمقراطية التعليم ومدرسة الجمهورية والمصعد الاجتماعي حقّقنا طموح بورقيبة وأحلامنا.

كان همّه الوحيد المشاركة في مسيرة الحضارة ومواكبة العصر، وتحديث تونس كثابت أساسي في سياسته. لقد كان التفاف الشعب حوله رغم بعض جيوب المعارضة، التفاف حول “شخصية مُلهمة” و “كاريزما” و “عقلانية”. كانت المسيرة طويلة وفيها اهتزازات، ولكنها انتجت دولة حديثة ذات سيادة.

كثيرة هي المراجع التي تحدثت عن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وخصاله وصفاته الخاصة ومسيرته النضالية. مراجع تعكس التأثر بشخصيته وقوّة حُجته وتأثيره ومآثره مع بعض الاستثناءات التي تعكس فقدان التوازن النفسي لأصحابها والمصالحة مع أنفسها وبيئاتها قبل غيرها.

أترحّم على الزعيم في ذكرى وفاته لأنه مؤسس المنظومة التي أنتجتنا، ومكّنتنا من تلقي ثقافة علمية وإنسانية فرضت نفسها. كان هناك اعتقاد راسخ لديه بأنّ التقدّم يتم حتمًا بتثقيف الشعب إناثا وذكورا، وبمراجعة مكانة المرأة في العائلة والمجتمع. ويضيف الكاتب يوسف ادريس : “ومهما قيل في الجوانب السياسية للرئيس بورقيبة “إلا أنه كان دائما وأبدًا راعيا للحركة الثقافية والإبداعية التونسية، وهذه نقطة تحضُّر للرجل ما في ذلك شك.

ماذا تعني لنا هذه الذكرى؟

لا يزال بورقيبة يعيش في وجدان الشعب التونسي، وهذه الذكرى ليست فقط لنكون مجرّد شاهدين على ما مضى، بل هي دعوة للوعي والفهم، ولتحمّل الأمانة، وطرح رسائل جوهرية حول إرثه المتناقض وتأثيره المستمر.

الرسالة الأولى هي قراءة التاريخ بموضوعية، فإحياء ذكرى بورقيبة ليس مجرّد حدث تاريخي بل هي تذكير بإنجازات التأسيس، واستحضار لمعانى القيادة والمسؤولية القائمة على القيم، لا المصالح… القيادة التي تضع الوطن أولاً، والشعب دائماً في القلب.

والرسالة الثانية هي استخلاص العبر من الإخفاق الذي عرفته تونس معه في تداول السلطة وحنين الشعب رغم ذلك إليه كزعيم كاريزماتي في زمن كثرت فيه الأزمات.

أما الرسالة الثالثة فتتعلق باستذكار الهوية التونسية الجامعة التي عمل على تكريسها بورقيبة دون انقسامات (قبائل وقيادات). أشاطر الرأي القائل أنّ “بورقيبة ليس ملاكًا ولا شيطانًا يُلعن”، بل قائدًا تاريخيًّا له انتصاراته واخفاقاته. والمطلوب هو أن نأخذ من سير ما يُعين على صنع مستقبل أكثر عدلاً واتّزانًا. ونضع حدّا لشيطنة الأموات.

إن حب الوطن لا يُقاس بالكلام، بل بالفعل والعمل، والوفاء الحقيقي للزعماء المؤسسين عبر مواصلة المسيرة بم يليق بتضحياتهم. لقد فقدنا الذاكرة منذ 1987 وأكثر من ذلك منذ 2011.

لا يزال الحوار الموضوعي حول تاريخ تونس نخبويًّا ويميل أحيانًا إلى تصفية الحسابات، ولا زلنا نعيش الاستغلال السياسي لرمزية الزعيم وقد تعدّى الحدود الأخلاقية المعقولة. هذا فضلا عن تحدّيات الحاضر التي لا يمكن مواجهتها بالخطب السياسوية والثورجة والشعبوية بل بالبناء على الدروس.

رحم الله الزعيم الحبيب بورقيبة، وجعل ذكراه نبراسًا لكل من أراد أن يكون في خدمة الوطن بضمير، وشرف، وإخلاص.

ضابط سابق في سلك الحرس الوطني.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.