من تريبوليتانيا إلى أطرابلس: تفكيك السرديات واستعادة التاريخ المغيّب

قراءة فكرية في كتاب الدكتور حافظ عبدولي بقلم: محمد نجيب هاني

في سياق تتزايد فيه الدعوات إلى إعادة قراءة تاريخ شمال إفريقيا بعيدًا عن الروايات الكولونيالية والمقاربات الاختزالية، يقدّم الباحث التونسي الدكتور حافظ عبدولي في كتابه “من تريبوليتانيا إلى أطرابلس؛ المشهد التعميري خلال العصر الوسيط المتقدم بين التواصل و التحولات” طرحًا علميًا جديدًا حول مسار التحول الحضاري الذي عرفته طرابلس الغرب بين العصور القديمة والإسلامية المبكرة.

وقد توّج هذا العمل مؤخرًا بجائزة الكتاب العربي، و في حفل بهيج بالعاصمة القطرية الدوحة تم تكريم المؤلف في اعتراف مستحق بجديته المنهجية وأصالته العلمية، وهو تتويج يُعدّ مكسبًا للثقافة التونسية وإثراءً مهمًا للمدونة التاريخية العربية.

وفيما يلي قراءة فكرية في هذا العمل المتميز، تبرز جدّته المنهجية وثراءه المعرفي، وتناقش إسهامه في تفكيك سردية القطيعة وتقديم بدائل تحليلية أكثر دقة وعمقًا.

قراءة فكرية في الأثر

في كتابه “من تريبوليتانيا إلى أطرابلس”، يخوض الباحث التونسي الدكتور حافظ عبدولي مغامرة فكرية ومعرفية لافتة، تقوّض السرديات التقليدية حول تحوّل إقليم طرابلس الغرب من فضاء لاتيني مسيحي إلى فضاء عربي إسلامي.

ما يقدمه حافظ عبدولي لا يندرج ضمن مجرد توثيقٍ تاريخي، بل هو مراجعة منهجية جذرية لما اعتُبر مسلّمات في الذاكرة التاريخية المغاربية.

تشبيك المناهج: التاريخ كحقل تعدّدي

تميّز هذا العمل بطبيعته المركّبة، حيث قام الباحث بتشبيك أدوات ومقاربات متعددة، من الطوبونيميا (علم أسماء الأماكن) إلى الأونومستكا (دراسة الأسماء الشخصية)، وصولًا إلى المعطيات الأثرية والمصادر الأدبية الكلاسيكية. هذا التداخل المعرفي لا يخدم فقط غرضًا توثيقيًا، بل يكشف عن رؤية أعمق: التاريخ لا يُروى من منظور واحد، بل من تفاعل طبقات المعنى والمعرفة.

تفكيك القطيعة: نحو سردية انتقالية لا ثوروية

من أبرز ما يطرحه الكتاب هو تفكيك “خرافة القطيعة”، تلك التي طالما صوّرت الفتح الإسلامي كمفصل زمني حاد يفصل بين عالمين متناقضين. عبدولي يثبت بالحجة العلمية أن هذا الانتقال كان تراكميًا، بطيئًا، محفوفًا بالتفاعل الحضاري أكثر من كونه صراعًا صفريًا.

بذلك، يساهم الكتاب في إعادة الاعتبار لفكرة الاستمرارية في التاريخ المغاربي، ويخرجنا من إسار القراءات الأيديولوجية التي سادت في القرن العشرين.

طرابلس كمرآة لتحولات المغرب

ليست طرابلس، في هذا العمل، موضوعًا محليًا معزولًا. بل تتحول إلى نموذج مصغّر يعكس ما جرى في عموم بلاد المغرب.

وهنا تتجلّى القيمة الفكرية للكتاب: إنه لا يدرس تاريخًا لمنطقة واحدة فحسب، بل ينطلق منه لتقديم أطروحة شاملة حول آليات التحول الحضاري في فضاء شهد عبور حضارات كبرى، دون أن يفقد خصوصيته.

على سبيل الخاتمة

لقد كان الهاجس المعرفي المحرّك لهذا العمل يتمثل أساسًا في محاولة فهم الكيفيات التي جرى بها التحول من تريبوليتانيا إلى أطرابلس، لا كتحوّل سياسي فحسب، بل كعملية حضارية معقدة حكمتها آليات متعددة: ديمغرافية، عمرانية، لغوية ودينية، انعكست بوضوح على تشكّل المشهد التعميري خلال العصر الوسيط المتقدّم.

فالمؤلف لا يكتفي بتوثيق هذا التحول، بل يحاول تفسيره عبر أدوات علمية دقيقة، ما يجعل من هذا الكتاب مساهمة نوعية في تأريخ لحظة مفصلية ظلّت في كثير من الأحيان أسيرة التبسيط أو التأويل الإيديولوجي.

وإنّ القيمة الكبرى لهذا المؤلف تكمن في كونه مرجعًا بالغ الأهمية لكل الدارسين والمهتمين بتاريخ شمال إفريقيا الوسيط، وبخاصة في ما يتصل بالآثار الإسلامية والتحوّلات العمرانية والثقافية التي صاحبت دخول الإسلام إلى المجال المغاربي.

كما يُعدّ ذا فائدة خاصة للباحثين المنشغلين بمسائل الانتقال من إفريقيا اللاتينية-المسيحية القديمة إلى إفريقيا العربية-الإسلامية، إذ يقدم مادة علمية ثرية وأطروحة متكاملة تفتح آفاقًا جديدة للفهم والتحليل وإعادة البناء النقدي للتاريخ المغاربي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.