الطفولة في تونس : مَن يُربي القبور حين تغيب الدولة؟

في بلاد يفترض أنّها أنهت استعمارها السّياسي المباشر منذ عقود، ما تزال الطّفولة تعيش استعمارا مباشرا من نوع آخر: استعمار العنف، الإهمال، التفقير، والقتل البطيء. نحن لا نرصد هنا مجرد “حالات” معزولة، بل منظومة من الإنتاج المنتظم للموت، حيث تتحوّل أجساد الأطفال إلى وقود يومي في ماكينة اللامبالاة الرّسمية والاجتماعيّة.

رياض الشرايطي

ليست هذه المآسي صدفة ولا نتاج حظّ عاثر. إنّها نتيجة حتميّة لاختيارات اقتصاديّة نيوليبرالية، ترى في الطّفل رقما لا قيمة له إلا حين يتحوّل إلى قوّة عاملة أو أداة تسويق. يقول فريديريك إنجلز: “الطّبقة التي تهمل أطفالها، تحفر قبرها بيدها”، وقد حفرت تونس، أو بالأحرى منظومتها هذه القبر طويلا وعميقا.

أولًا: البنية التّحتية كآلة قتل أو حين يُحوّل الطّريق إلى شرك طبقي

البالوعات المكشوفة والحفر القاتلة أو عندما يبتلع الإسفلت الطّفولة:

لم يكن سقوط فرح بن رمضان (4 سنوات) في فتحة صرف صحي سوى نموذج لعدالة هندسية منحازة: الأحياء الغنية آمنة، مرصوفة، مزودة بكاميرات وحرّاس… أما أحياء الفقراء والكادحين، فهي فخاخ مفتوحة.

لا يمكن قراءة هذه الحوادث بمعزل عن منطق التمييز الطبقي في التخطيط الحضري. الأطفال يُقتلون في الشارع لأن البلدية لا تراهم. أو تراهم، ولكن لا تعتبرهم جديرين بالبقاء. و كما تقول سوزان جورج: “الفقر لا يولد من العدم، بل من قرارات تُتخذ باسم المصلحة العامة”.

الأودية والممرات المفقودة أو عبور نحو الموت:

حين غرقت مهى القضقاضي في وادٍ وهي تحاول الوصول إلى المدرسة، لم يكن الوادي هو القاتل، بل غياب الجسر. وغياب الجسر هو قرار سياسي، لأنه يُكلف مالا، والمال يُصرف على ما يخدم الطبقة السائدة. فالمناطق المهمّشة لم تُهمل، بل استُبعدت بنيويا. لم تُنسَ، بل حُذفت من مخطط التنمية.

الطفلة التي تموت لأنها لا تجد جسرا هي ضحية لنموذج اقتصادي يحتقر الفقير حتى في موته. نحن لا نملك سياسة عمرانية، بل سياسة فرز: الأحياء الراقية آمنة، والأحياء المهمشة مختبرات موت.

الهندسة الحضرية في تونس ليست تقنية، بل أداة للفرز الاجتماعي. يجب تحويلها إلى حق اجتماعي دستوري، لا امتياز.

النقل المدرسي بين حافلات لا تصل، أو تصل محمّلة بالموت:

حادثة عمدون ليست كارثة مرور، بل نتيجة مباشرة لانسحاب الدولة من النقل العمومي وتفويضه للقطاع الخاص غير المؤطر.

طفل القصرين الذي سقط من شاحنة خفيفة أثناء عودته من المدرسة، هو صورة حقيقية لما تعنيه “خصخصة الدولة”: سلامتك تقاس بقدرتك على الدفع. الفقراء لا يملكون الحق في الأمان.

ثانيًا: المدرسة التي لا تُعلّم… بل تهدّد

مدارس تنهار أو الجدران أبلغ من الكتب:

حين يسقط جدار معهد المزونة ويقتل ثلاثة أطفال، فإننا أمام “اغتيال رسمي”. حين تصدأ البوابات وتتكسّر على رؤوس التلاميذ، نحن لا نرصد خللا عرضيا، بل سياسة: من يدرس في مدرسة بلا سقف، من الطبيعي أن يحلم بلا أفق.

المدرسة التي تسقط على التلميذ، والتي تقدم له طعاما فاسدا، وتفتقر إلى طبيب أو حارس، لا يمكن اعتبارها فضاء للتكوين. إنها آلة إعادة إنتاج للفقر، حيث يتعلم الطفل منذ الصغر أنه لا يساوي شيئا. حيث قال باولو فريري: “التعليم يمكن أن يكون أداة لتحرير الإنسان، أو وسيلة لتعميق عبوديته”.

في تونس، المدرسة تحوّلت من وسيلة ارتقاء اجتماعي إلى مؤسسة فرز: من يستطيع يواصل، ومن لا يستطيع، يُقصى. الانقطاع المبكر عن الدراسة ليس فشلا فرديا، بل نتيجة لمنظومة تكره الكادحين.

المدرسة بحاجة إلى ثورة وظيفية: من مركز تلقين إلى مركز مقاومة اجتماعية، من مؤسسة رمادية إلى فضاء إنتاج إنساني.

الإطعام المدرسي أو الجوع كمنهاج تربوي:

حادثتا التسمم في توزر وباجة ليستا سوى أعراض لمجتمع لا يعتبر الطعام حقا. الوجبات الباردة، أو الفاسدة، ليست فقط خطرا صحيا، بل هي ترجمة يومية لازدراء الدولة للفقراء. منطقها بسيط: أعطهم ما يسد الجوع… لا ما يحفظ الكرامة.

الرعاية الصحية الغائبة أو مدارس بلا أطباء و أطفال بلا إنقاذ:

في تونس، إذا أغمي على طفل، فإن أسرع وسيلة إنقاذ هي الهاتف الجوال للأستاذ، لا سيارة إسعاف. لا ممرضين في المدارس. لا وحدات طبية. فقط نصائح شفهية ومُسكنات منزلية. حتى عند المرض، يُعامل التلميذ كمواطن من الدرجة الدنيا.

الانقطاع المبكر عن التعليم أو الطريق الأقصر إلى التهميش:

الآلاف يغادرون المدارس سنويا، ليس لأنهم لا يحبون التعلّم، بل لأن النظام طارد. لأن المدرسة أصبحت “مركز فرز طبقي”. من لا يواكب، يُقصى. ومن لا يقدر، يُلقى في الشارع. الانقطاع المبكر ليس ظاهرة بل قرار بلا توقيع.

ثالثا: المدرسة كمسرح للعنف والمخدرات

ارتفاع منسوب العنف أو التلميذ الغاضب كصورة عن مجتمع مكبوت:

في ظل الغياب الكامل للدعم النفسي والتأطير الاجتماعي، يتحول الغضب إلى عنف. تلميذ يضرب أستاذه، أو زميله، أو يكسر المقاعد… لا لأنه وحشي، بل لأنه مهزوم. عنف المدرسة هو صورة مصغّرة لعنف الدولة.

حين تغيب الدولة، تملأ العصابات الفراغ: استغلال قُصّر في السرقات لأن القانون لا يسجنهم، إدماجهم في شبكات المخدرات لأنهم أرخص وأسهل ترويضا. المعاهد لم تعد فقط مؤسسات تعليمية، بل أسواق للاتجار بالأجساد والعقول. “حين يُسحب الأمل، يصبح الجسد هو رأس المال الوحيد”، كما تقول أريان بودييه.

الطفل يصبح ناقلا للمخدرات، أو حارسا في مرآب غير قانوني، أو عاملا في محل ميكانيك… لأنه لا يرى مستقبلا آخر. لا لأنه فاسد، بل لأن الفساد أصبح الشكل الوحيد للممكن.

يجب فرض حماية جنائية ثورية للأطفال: لا بمنعهم من الجريمة فقط، بل بخلق أفق حياتي يمنعهم من التفكير فيها أصلًا.

المخدرات في المعاهد أو عندما يُصبح الفسحة سوقا سوداء:

تحوّلت بعض المدارس إلى أسواق صغيرة لترويج المخدرات. الزطلة، الأقراص، المواد الكيميائية الرخيصة. ولا أحد يراقب. ولا وُجدت آليات حقيقية للوقاية. غياب الدولة لا يخلق الفراغ، بل يملؤه التهريب والعصابات.

الحرقه أو حين يُصبح البحر أقرب من المدرسة:

طفل في الخامسة عشرة، يجهّز حقيبة لا تحتوي على كتب، بل على رغيف يابس وسترة نجاة. لماذا؟ لأن المستقبل في تونس لم يُبنَ له. الحرقه ليست فقط حلما بالهروب، بل احتجاجا غير منطوق على انهيار الدولة كفكرة. كذلك تستغل الجريمة المنظمة الطفولة.

تشغيل الأطفال أو العرق المبكر تحت لافتة “التكوين المهني”:

في محلات ميكانيك، مخابز، ورشات نجارة… يعمل الأطفال لساعات طويلة تحت وهم “التدريب”. والحقيقة أنهم يُستغلّون لأنهم أيدي عاملة بلا نقابة. الطفل الذي يعمل قبل أن يكمل تعليمه، هو طفل اختُطِف من مستقبله.

استغلال الأطفال في الجريمة لأنهم لا يُسجنون:

عصابات السرقة والتهريب تستخدم الأطفال عمدا. لأن العقوبات عليهم رمزية، ولأن القانون يحميهم أكثر مما يحمي ضحاياهم. وهكذا، تتحوّل الطفولة إلى أداة في يد الجريمة لا طرفا محميا منها.

رابعا: لا إعلام، لا ثقافة، لا ترفيه أو الطفولة بلا وطن

لا ومضات، لا برامج، لا بدائل ثقافية:

أين الإعلام العمومي من الطفل؟ لا ومضات توعوية. لا برامج تحسيسية. لا خطاب موجه لأبناء الأحياء و اوليائهم . كأنهم غير موجودين. وكأن الوعي ليس لهم.

غياب الفضاءات الثقافية والترفيهية أو الأحياء الفقيرة بلا متنفس:

في تونس، الطفل في حيّ شعبي لا يجد مسرحا، لا ناد ثقافي، لا مكتبة، لا ملعبا عاما. الفضاء الوحيد المتاح هو الشارع… والشارع قاتل. الثقافة تُعتبر “كمالية”، والترفيه “ترفا”. فمتى كان الحلم ترفا؟ و كما تقول بيلا هُوكْس: “حين يُحرم الطفل من اللعب، يُسرق منه الحق في أن يكون إنسانا حرا”.

غياب الومضات التوعوية، البرامج الموجهة، النوادي الثقافية، المسارح، فضاءات اللعب… ليس مجرد فقر في الميزانية، بل احتقار رمزي لطفولة الفقراء. الطفل ابن الحي الشعبي لا يُعتبر كائنا له احتياجات نفسية أو جمالية. يُرى فقط ككائن بيولوجي يجب أن “ينضج بسرعة” ليشتغل أو يصمت. يقول هربرت ماركوز: “المجتمع القمعي هو الذي يختصر الإنسان في وظائفه الحيوية، ويحرمه من خياله”.

المخيال الجمعي التونسي لا يمنح الطفل مساحة للحلم. حتى الحرقه صارت “مشروع حياة”… لأن الطفل لا يرى في وطنه سوى موت بطيء.

يجب إعادة تعريف الطفولة كـمرحلة ذات سيادة مستقلة، لا ممر نحو الرشد. هذا يتطلب سياسة ثقافية موجّهة بوضوح للطفل المهمش.

رابعا. ما العمل أو البدائل الممكنة

– تشريع واضح يعتبر حماية الطفل من صميم الأمن القومي.

– خلق “ميثاق عمراني واجتماعي” يُجبر الدولة على تأمين البنية التحتية في كل حي، دون استثناء.

– تحويل المدارس إلى مراكز ثقافية وصحية واجتماعية، لا فقط تعليمية.

– فرض حصص يومية للوعي الاجتماعي، الفنون، الدعم النفسي داخل البرامج التربوية.

– تمويل إجباري من الدولة والبلديات لفتح فضاءات لعب ونواد ثقافية في كل حي شعبي.

– إعلام عمومي يُخصص جزء ثابتا من برمجته للأطفال، بلغتهم ومشاكلهم.

الطفولة ليست فقط سنّا بيولوجيا، بل لحظة تكوينية تحدد ملامح المواطن القادم. في تونس، لا يمكن الحديث عن حرية، أو كرامة، أو سيادة، ما دامت الطفولة مقموعة أو مقتولة أو مُهانة. لا يكفي أن نرثيها حين تموت، بل يجب أن ننتزع لها الحق في الحياة، الآن، وهنا، وبشكل جذري.

بين الموت الصامت والغضب الصارخ… أي مستقبل لأطفال تونس؟

لا يمكن الحديث عن “إصلاح الطفولة” دون الحديث عن إعادة توزيع الثروة، وتقويض السياسات النيوليبرالية، وخلق دولة اجتماعية عادلة. الطفل لا يحتاج صدقات. بل يحتاج وطنا. يقول أنطونيو غرامشي: “نُعاني من أزمة، لأن القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر الوحوش”.

طفولة تونس تسكن هذا الفراغ… فهل نترك الوحوش تلتهمها، أم نبني المستقبل من جديد، من تحت؟ من القاعدة، من المدرسة، من الحي، من الحق في الحياة؟

شاعر و ناشط.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.