عندما تشاهد تنوع الجماعات السياسية و النقابية و الجمعوية في شارع الحبيب بورقيبة و هي تتظاهر في حلقات و جماعات و مسيرات يوم عيد الشغل و الشغالين فإنك تنتعش و تسري في مهجتك نفحة متفائلة و ارتياح عارم لمستقبل هذه البلاد. و مهما اشتدت الأزمات العارضة فإن الشاعر ابن النحوي القيرواني قال اشتدي أزمة تنفرجي، ثم جاء عبقري الجريد ليحسم الأمر و يغلق باب اليأس لأن الليل لابد أن ينجلي و لأن القيد لا بد أن ينكسر.
سعيد بحيرة

انتابني هذا الشعور و أنا أنتقل من مجموعة إلى أخرى في قلب العاصمة : هنا باقة من المهتمين يرفعون صورة أحمد صواب ويطالبون بإطلاق سراحه، و هناك و في ساحة إبن الشعب محمد علي الحامي تنطلق الأهازيج بقوة أمام عرين حشاد مذكرة بمنارة الاتحاد العام التونسي للشغل التي أضاءت دوما ليالي تونس الخريفية، و في اندفاع شبابي حماسي تسير فصائل سياسية رافعة شعارات راديكالية عنيدة، و على مدارج المسرح البلدي يتغنى أنصار السلطة بأهازيج سيادية لا تقبل التدخل الخارجي…
و الأكيد ان هذا التنوع مكسب، و أن هذا الالتقاء بذرة نافعة، و أن هذه الحرية ثمرة نضال أجيال و أجيال… و لكنك عندما ترهف السمع فسيتناهى إلى أذنيك شعار “ديقاج” موجها إلى نور الدين الطبوبي من قلب تجمع ساحة محمد علي، و سترى أبناء حمة الهمامي و هم يصرون على قيادة القوى السياسية الأخرى و يرفعون شعارات حزبية ألفناها في سبعينات القرن الماضي و يرفعون لافتات موشحة بالمنجل و المطرقة و قد دخلتا متاحف التاريخ منذ ثلاثة عقود… أما الوطد فإنه يوجه سهامه إلى الدساترة و التجمعيين فيخطؤون المرمى لأن هؤلاء لم يعودوا في الحكم منذ عقد و نصف… و الإسلام السياسي حسم الأمر و فهم اللعبة فأصبح لا يشارك في الإحتجاجات سوى بقيادات محدودة حتى يريح الجميع من صيحة “سحقا سحقا للرجعية دساترة و خوانجية “… و جماعة المجتمع المدني ينبثون في كل المجموعات فلا تعرف هل هم متحزبون أم حركيون يبشرون بالجندرية و شعارات كييرة؟ و مقابل كل هذه الموزاييك الرومانية يوجد مناصرو السلطة و هم يخوضون معركة من نوع آخر لأنها موجهة للتدخل الخارجي و مبشرة بموجات التطهير وورشات التشييد…

هكذا كانت لوحة عيد الشغل و الشغالين زاهية الألوان في يوم ربيعي دافئ، و هكذا هي النخبة السياسية و قد شاخت و هرمت و لم تتجدد إلا بمقدار، و هكذا هي تونس كما كانت دوما لا تميل إلى المغامرات و تأبى الذهاب إلى المجهول… رصينة ثابتة الأقدام حتى و إن ضاق صدرها و اشتدت أزمتها فما بالك إذا تغزلت بها الشعوبية و أوهمتها أنها الأفضل و الأغنى و العنيدة أمام الأعداء. لكنها تبقى تونس القلقة أمام الخلافات التي تشق أبناءها و تفسد وئامها الذي تعودت عليه في المنعرجات الخطيرة و كلما تباينت اتجاهات أبنائها فدعوها تتمتع بباقة زهورها التي زينت شوارعها في عيد الشغل و الشغالين، و أريحوها من كل الأوهام التي انتعشت في ربيع ممطر لكنها لا تحمل بذورا واعدة و هي أرض القمح و الشعير و الزيتون. أما إذا أصر شيوخ النضال و دعاة الشعبوية على العناد فقد ينفذ صبر العباد .
باحث جامعي و محلل سياسي,
شارك رأيك