بعد شهرين من الحصار الكامل لقطاع غزة مع قطع الطعام و الماء و الكهرباء و الدواء، و مع القصف الوحشي من السماء و الأرض و البحر استفاق الضمير الغربي ليضغط على إسرائيل حتى تسمح بدخول بعض المواد الحياتية !! و بعد مقتل آلاف البشر بدم بارد استفاقت انسانية أصدقائنا في أوروبا و أمريكا لتدعو لإنهاء القتل العشوائي الصهيوني !! و بعد رحلة الرئيس ترامب على تخوم محرقة غزة و جمعه لآلاف المليارات من السعودية و قطر و الإمارات غزة تكرمت علينا الولايات المتحدة الأمريكية بالتعبير عن بعض القلق تجاه ما يجري في غزة !!
سعيد بحيرة *

يا لها من مشاعر نبيلة و مواقف إنسانية رائدة من طرف العالم الحر !!
هل كان يجب أن يحصل كل هذا القتل لتتحرك الديمقراطيات العريقة ؟ و ماذا يجب أن يحصل أيضا حتى توقف تلك الدول دعمها الأعمى لإسرائيل و مدها بالأسلحة الفتاكة ؟؟ و هل كانت إسرائيل قادرة على كل هذه العربدة الاستفزازية لو لم تحمي ظهرها أمريكا و أوروبا و تجعلها في مأمن من القرارات الأممية و المحاكمات الدولية ؟
نعم لنا أصدقاء في الغرب ولكنهم يعتبروننا أصدقاء من الدرجة الثانية و طابورا خامسا يصلح عند الحاجة، بل إنهم ينظرون إلينا من داخل الحضارة المسيحية اليهودية فننقلب في نظرهم إلى أعداء محتملين. و لا يعدو ذلك أن يكون تفكيرا استعماريا و نفاقا سياسيا تمرره و تروجه الآلة الإعلامية الغربية الفتاكة التي تفتح منابرها لتحريف الأحداث و مغالطة الرأي العام.
الغرب يرفض الخلط بين الدين و الدولة و يقبل دولة يهودية
و من حسن الحظ أن جزءا من الغرب يرفض هذه الرؤية المنحازة و يتمسك بالقيم التي روجتها أوروبا الأنوار و أمريكا التحررية، و قد رأينا رجالا ونساء شرفاء صدعوا بالكلمة العادلة و الموقف المنصف أمام غطرسة اللوبيات المشبوهة، و عرفت شوارع و جامعات و برلمانات الغرب تحركات مناصرة للحقوق و مناهضة للحرب الإسرائيلية المدمرة.
و لسنا في حاجة إلى تذكير أصحاب نظرية الثقافة المسيحية اليهودية أن أشبع الحروب دارت رحاها بينهم، و أن اليهود وجدوا الملجأ الآمن في العالم العربي و الإسلامي عندما اضطهدهم الغرب، لكن الأيديولوجية الصهيونية هي التي حرفت التاريخ ووظفت الأساطير التوراتية لتصيغ سردية عدائية و تبني دولة دينية تبجلها الدول العلمانية. و إلا بماذا نفسر التعبئة الاستثنائية ضد مشروع دولة الخلافة لدى داعش و في نفس الوقت نقبل الخطاب الليكودي المتطرف و الأحزاب الصهيونية العنصرية؟ و كيف نرفض الخلط بين الدين و الدولة و نقبل دولة يهودية يعيش داخلها أكثر من مليوني فلسطيني مسلم و تحوط نفسها بجدران عازلة؟ و ماذا لو حصل ذلك مع داعش مثلا؟
ا تواصل مقياس المكيالين و المقياسين
إن الغرب و أمريكا مطالبين برفع اليد عن الأمم المتحدة و منظماتها المختصة حتى تقوم بدورها الذي بعثت من أجله و على رأسه حفظ السلام بين الشعوب و ضمان الحقوق بأنواعها. أما إذا تواصل مقياس المكيالين و المقياسين فإننا ذاهبون لا محالة إلى نهاية حقبة من التاريخ لعل بوادرها سياسات ترامب الهوجاء و تربص القوى الجديدة في مجموعة البريكس و عناد الحركات الإسلامية المبثوثة في كل القارات، و عندها يا خيبة المسعى.
و من البلاهة الإعتقاد في أن الغرب قوي بما يجعله يزرع الموت حيثما شاء و متى شاء و يوقفه متى شاء إذ قد يكون هذا الغرب هو الميدان المقبل للحروب و أهوالها، و لشعوبه في هذا السياق ذكريات أليمة و مروعة لا نتمنى تكرارها.
و إذا كان الغرب ممثلا في الاتحاد الأوروبي قد نجح في الضغط على إسرائيل هذه المرة فإن العرب لم يقدروا على فعل ذلك عبر جامعتهم العربية المهترئة و لم يقدروا على حتى على التهديد بقطع العلاقات أو سحب السفراء أو وقف الرحلات الجوية بين إسرائيل و الدول المطبعة و ذلك عين العجز و ذات الخذلان، فشكرا للاتحاد الأوروبي و بئس الجامعة العربية.
* باحث جامعي و محلل سياسي.
شارك رأيك