ظهرت “الكواد كابتر” (Quadcopter) أو الطائرات المُسَيَّرَة رباعية المراوح في الآونة الأخيرة في وطننا العربي؛ للترفيه والتصوير، وصناعة الأفلام، ولأغراض صناعية وتجارية أخرى، بينما ضَمَن استخدام الاحتلال الإسرائيلي لها في حربه الأخيرة على غزة، ضمن له السيطرة التامّة على الأرض، دون الحاجة إلى جنوده في الميدان.
هيا فريج *

يمكن للكواد كابتراستطلاع المكان، ومراقبته بشكل واضح وكامل، ورصد تواجد الأفراد، وحركاتهم وتنقلاتهم، وبالتالي تغطية جوية لأكبر قدرٍ ممكن من المناطق المحظورة عسكريًّا التي يتوغّلها بريًّا، من خلال تنفيذ مهمات هجوميّة، وإطلاق النار المباشر بقنابل الكواد كابتر على المدنيين أو العسكريين، دون تمييز بينهم خلافاً لما تقتضيه الأعراف الدولية.
فقد شهدت غزةُ ارتقاء عدد هائل من الشهداء، بمجرد اقترابهم من المنطقة المحظورة التي تتواجد فيها آليات الاحتلال، وفي أثناء محاولتهم الوصول إلى منازلهم أو محلاتهم أو أراضيهم الزراعية، أو في أثناء نزوحهم من مكان إلى آخر. كما لم ترحم آلة القتل هذه المختبئين المحتمين داخل بيوتهم في مناطق عسكرية مغلقة توغل فيها الجيش فجأة، ولم يستطع أصحابها مغادرة المكان، أو آثروا البقاء ظنًّا منهم أن المكان آمنٌ، وأن الجيش لن يقترب من العزّل المسالمين في بيوتهم.
هذا الأمر جعل “الكواد كابتر” أحد أهم عناصر التفوق العسكري الإسرائيلي، وأسهم في تحييد مناطق كاملة، مثلما فعل في عزله للمناطق المتاخمة للشريط الحدودي مع غزة منذ السابع من أكتوبر، ومثلما يفعل في اجتياحاته المتكررة لشمال القطاع وجنوبه، ومنعه للسكان من الوصول إلى مدينة رفح منذ أكثر من عامٍ، أو في حصار مخيم جباليا، حين أطبق الاحتلال على مداخل المخيم ومخارجه، وكانت محاولة النجاة منه دربَ موتٍ تمشي إليه بكامل إرادتك.
حصارٌ تامّ على مخيَّم جباليا
أما الأحياء الناجون الذين أخطأتهم سِهامُ الأقدار، فليس لهم إلا أن يرووا حكايتهم، ويكتبوها بالدمِ والدمع… جربنا “الكواد كابتر” في حصارات مخيم جباليا، فقد انهمرت علينا القذائف والصواريخ، وسط اقتحام الاحتلال للمخيم بجنوده ودباباته، مع تغطية جويّة كثيفة، فقد فرضت “الكواد كابتر” حظر التجوال، ولم نستطِع أن نتحرك من البيوت، إلا بعد صراخ جارنا الذي استنجد بإخوتي لإسعافه من رصاصٍ حيٍّ في قدمه، وأخبرهم بتفتيش الجيش للبيوت في المخيم، واعتقاله للرجال والشباب والنساء، ونصحنا بضرورة النزوح قبل الاعتقال، في حينِ أن جارًا لنا قد حاول استطلاع ما يجري، فأصابته الطائرة برصاص مباشر أردته شهيدًا على الفور. حاول جاره سحب جثته، فسقط شهيدًا فوقه، ولم يستطع أحد انتشال جثتيهما إلا بعد أيام فور انسحاب القوات من المخيم، ودُفِنا معًا في مقبرة جماعيةٍ للشهداء، فقد فُرِض حصارٌ تامّ على المخيَّم، كان ذلك في الأيام الأولى بعد الهدنة الهشّة أوائل 2024، التي جرى فيها تبادلٌ للأسرى والمخطوفين.
ادّعى الاحتلال وقتها بأنّ المخيم مسرح قتالٍ خطير، وأن علينا مغادرته نحو مدينة غزة، وقد حدّد لنا خريطةً للنزوح، تنتهي بنا لأن نسلُكَ شارع الوحدة للوصول إلى الملاذات المعروفة في حيّ الرمال، ولندرة وسائل المواصلات، فقد مشينا أكثر من نصف الطريق قبل أن نجد حمارًا نضع حِملَنا عليه، استطاعت والدتي مع جدتي الوصول إلى حي الرمال قبلنا، لكن باغتتنا “الكواد كابتر” في طريق النّزوح برصاصها المباشر تحت أقدامنا، وعلى أرجلنا، قبل أن نحتمي بجدران مسجد السرايا المقصوف، حاولنا مع جموع النازحين قطع الشارع الرئيس إلّا أن رصاصاً عنيفاً كان ينتظرنا. سقط المصابون أمام أعيننا، وكان علينا أن نختار بين أن نعبر شارع الموت، أو أن نعود مفترقين إلى حيّ الشيخ رضوان، الذي كان مسرحًا آخر من مسارح العمليّات العسكريّة.
في بلد الموت واليأس والقهر
وفيما كان إخوتي يعبئون المياه مع الجيران، أمطرت الطائرة اللعينة ذاتها الرصاص على الجموع التي تصطف لتملأ ما يكفيها من مياهٍ غير صالحة للشرب، ما زالت ملوحتها في فمي حتى بعد مضي ما يقاربُ عاماً ونصفاً على شربها، كان علينا أن نتجرعها؛ كي لا نموت عطشًا في بلد الموت واليأس والقهر.
لا يُغادر هذا المشهد عيناي، ولا أنسى محاولات الشباب للاحتماء بالسيارات، وإلقاءهم لجالونات المياه في سبيل النجاةِ، وعدم قدرتهم على العودة إلى البيت إلا بعد المغرب.
اضطُّررنا بعدها للعودة إلى المخيم مرةً أخرى، فقد كان شمالُ غزّة كله يشتعلُ نارًا، وكنّا كلّ ليلةٍ على موعدٍ مع جنود المشاة الذين يتجوّلون في الأزقة، ومع جنازير الدبابات التي تدّوس دون رحمةٍ كل ما يقع بين أسنانها.
ضيف ثقيل يحصي النيام وأنفاسهم
النومُ رفاهيةٌ بعيدة المنال، حملنا على أعتاقِنا ضجيجَ اليوم، وحين حلّ المساء، وجدنا الليل ثقيلًا، وما أطول الليل على من لم ينَمِ، وكيف ينامُ من ينتظر مجهولًا، وقدرًا معلّقًا بين السماء والأرض، تقذفه الدبابات وترميه الطائرات وتلقي به البوارج دون شفقة؟
عُدْنا مع جارٍ وحيد، لا نجرؤ على الكلام والحركة إلا حين تهدأ الأوضاع، وتتراجع الآليات قليلًا، وحين ارتاح لوجودنا، أحضرَ بناته بعد أيامٍ لينمْن معنا في الحارة؛ طلبًا للأُنْسِ الذي لا يغيّر في معادلة الصراع شيئًا، فلا هو يجلبُ الأمان، ولا يحقّق الاستقرارَ، لكنّه يعني الكثير من الطمأنينة للذين يعيشون كلّ تفاصيل الحياة تحت القصف.
كنّا وقتها نسكنُ بيتنا دون نوافذ، فقد تحطمت مع القصف المتكرر، وضعنا قطع قماش خفيفة تسدّ عنا بردَ كانون، لكنها لا تمنع استقبال ضيوف سمجين، فقد كانت “الكواد كابتر” زائرةً ليليّةً تفرض نفسها عنوةً، تحلّق فوق النافذة تمامًا، وتتربّصُ بنا، فتفتح كشافاتها لتعدنا واحدًا تلو الآخر، ثم تأتي عند الباب (لم يكن هناك باب لأنه سقط فوقي من جراء قصف منازل جيراننا آنذاك) وتضيء لتراقب المنزل بأكمله، كانت ضيفًا ثقيلًا، لكنّنا كنّا أهل بيتٍ ملتزمين بما تقتضيه مبادئ الضيافة، نفردُ فراشنا في الصالون بعد صلاة العصر، ولا نتحركُ إلا للضرورة القصوى، ولا نتكلمُ إلا همسًا، تحومُ لساعاتٍ حولنا، فلا تسمعُ إلا أصوات دقّات قلوبنا المرتجفة، ولا تشعر إلا بتجمّد أطرافنا، وتصلُّب أجسادنا.
وجودنا أحياءَ يفشل مخططات التهجير
في آخر اجتياحٍ للمخيم قبل الهدنة الأخيرة، تمركزت الدبابات في حيّ الفالوجة الذي يعدُّ مدخل المخيم ومخرجه الجنوبي والغربي، ظل أحد الجيران يدعونا إلى الثبات: “لا تخرجوا يا ناس، أنا هنا مع زوجتي وأولادي في الحارة”، لكنّ خوف الأولاد دفعه للخروج لتأمين الطريق لهم، بمجرّد محاولته قطع الشارع، مزّقته طائرة الكواد كابتر بالرصاص، ثم جاءت الدبابة؛ لتكمل هرْسَه بقذائفها، ظلّ الرصاص مطرًا ينهمر على الحيّ كله لأكثر من ساعتين، وحين تراجعت الدبابات قليلًا، نادى جارنا في الحارة على أخي الحكيم إن كان بوسعه إسعافه، قرأ أخي: “وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ” (سورة يس، الآية 9). لكن الشاب كان جثة هامدةً لا روح فيها، تمكن أخي من انتشال جثمانه بتوفيق الله وصدق الدعاء.
قبل قصف منزلنا بدقائق، كنا قد رأينا طائرة “الكواد كابتر” تقف عند باب المنزل، كانوا على درايةٍ بوجودنا فيه، وعلى علمٍ بأننا لا نشكل خطرًا عليهم، لكنّ وجودنا أحياءَ يفشل مخططات التهجير التي يعدونها.
وبالطبع، ما دام للطيران قدرته الفائقة على رصد كل هذه التحركات، فمن المؤكد أن تحركّات الأفراد ستكون محدودةً للغاية وفي نطاق ضيق جدًا، ما يعني سقوط فرضية المقاومة الشرسة، والاشتباكات العنيفة التي تروّج لها بعض وسائل الإعلام، فلا جدوى للوسائل البدائية في حضور التكنولوجيا الحديثة، وبذلك يكون مطلب نزع السلاح لإيقاف الحرب نوعًا من المراوغة للاستمرار فيها. فكيف للكف أن تلاطم المخرز؟ فلا يملكُ العُزَّلُ ما يواجهون به القنابل التي تتساقط من السماء، ولا الصواريخ التي تُصبّ حِمماً فوق رؤوسهم، ولا كُتلُ اللهيب التي تندفعُ إليهم، فتحصد أرواحهم، غير أنهم ينتظرون إنصاف العدالة لهم، وإحقاق الحقّ القاضي بإيقاف شلال الدمّ.
* باحثة فلسطينية من غزة.
شارك رأيك