هناك، في أقصى الجنوب، حيث تتواطأ العزلة مع التأمل، وحيث تتباطأ الخطى لتسمح للذاكرة أن تتنفس ببطء، يجلس رجل يرتّق ما تمزّق من الحكايات، ويجمع فتات التاريخ المتروك على هامش الكتب الرسمية. هو ليس مؤرّخًا، ولا يدّعي ذلك، بل هو كاتب بطبعه، طبيب في مهنته، وشاهد بصير على وجع هذا الوطن المتشظي.
جمال قتالة
«بعيدًا عن الأعين» للكاتب سليم عبادو، ليست مجرد رواية أخرى تُضاف إلى رف الأدب الجزائري، بل هي محاولة لإنقاذ إنسان من النسيان، إنسان اسمه موريس أودان، عاش ومات بيننا، ومع ذلك، لا نعرف عنه سوى اسمه الذي تُوشّح به ساحةٌ وسط العاصمة، تمرّ بها الأقدام ولا تلتفت، كما لو أن الحجر يكفي لخلود الرجال.
في هذا العمل، لا نقرأ سردًا تاريخيًّا جافًا، ولا وثيقة تُحاكم زمنًا، بل نسمع همسًا ناعمًا يتسلل من بين السطور، يعيد تركيب حياة رجل كان يمكن أن يظل مجرد رقم في أرشيف الجنرال ماسو، لولا قلم قرّر أن يقول: هنا كان إنسان.
من هو موريس أودان؟
هو شاب من عائلة أوروبية، درس الرياضيات، آمن بالعدالة، ورفض أن يكون شاهد زور في زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر. لم يكن بطلاً تقليديًّا يحمل سلاحًا في الأدغال، بل كان صوتًا ناعمًا يكتب ويشرح ويفكك المعادلات… حتى اختطفه العسكر ذات ليلة، فغاب جسده وبقي أثره.
في الرواية، يُستعاد موريس في تفاصيله الصغيرة: في قلقه، في حبّه لزوجته جوزيت، في خوفه النبيل، وفي شجاعته التي لم تكن صاخبة. الرواية لا تسائل فقط موته، بل تنقّب في حياته، في هشاشته، وفي لحظات الإنسان التي لا تؤرشفها الكتب ولا تلتقطها الكاميرات.
حبرٌ صامت… وضوء خافت
الكاتب لا يصرخ، بل يكتب بهدوء العارف، وحنان من يسرد حكاية قريبة من القلب. هو لا ينتقم من النسيان، بل يضيء زاويةً فيه. بعيدًا عن الأعين هي رواية تُقرأ كما يُستمع إلى لحن قديم، مألوف وغريب في آن. هي دفء في زمن بارد، وإيمان بأن الأدب وحده قادر على منح الخلود لأولئك الذين تمّ إخفاؤهم عمدًا من الذاكرة.
تشتري الرواية، لكنك تقتني معها شيئًا أثمن: لحظة إنصات إلى صوت خافت خرج من بين أوراق ماضينا، يقول لك همسًا: “الذين ماتوا من أجل الحقيقة… لا يموتون.”
شارك رأيك