أكثر الأصوات التي تهزّنا هي تلك التي يهدّدها النسيان. الفنانة التونسية صليحة، رمز الأغنية الشجية، والحب المستحيل، والتضحية الصامتة، تُجسّد هذا القول بكل وجع. خلف الأسطوانات، والتكريمات، وأرشيف الرشيدية، هناك امرأة مثخنة بالجراح تُعيد الكاتبة والصحفية بثينة الغريبي إحياءها في روايتها «كيف صارت صلوحة صليحة؟»، الصادرة عن دار أركاديا للنشر.
جمال ڨتالة
وُلدت صلوحة بنت إبراهيم بن عبد الحفيظ في عائلة فقيرة بالكاف، وأُرسلت طفلةً لتعمل خادمة وهي في العاشرة من عمرها. غسلت أرضيات قصور البايات، وخدمت في بيت الفنانة بدرية، وتعلّمت أن تلوذ بالصمت في دهاليز السلطة والفن. زُوّجت مبكرًا على أمل أن تظفر بحياة أفضل، لكنها صُدمت بواقع أشد قسوة، حيث فشل زواجها وفقدت اثنين من أطفالها الثلاثة. ومن هذه المعاناة وُلد صوتها… صوت صليحة، التي أحبتها تونس، وإن لم تُشفِها.
ذاكرة منفية
رواية بثينة الغريبي ليست سيرة تقليدية، بل هي نص مقاومة، مكتوب بلغة ملتهبة، يعيد رسم الظلال المنسية حول صليحة. «سيرة بين ضفتين»، كما يرد في العنوان الفرعي، بين الحياة الشخصية والأسطورة الفنية، بين الألم والجمال.*
على غلاف الرواية، نقرأ كلمات أقرب إلى شهادة اتهام ضد نسيانٍ مُمنهج:
«هيّأوا لها كل الظروف لترحل سريعًا… دفعوها إلى الرحيل دفعًا. صليحة؟ حاصرها الموت حين جاءت من ريف الكاف إلى تونس العاصمة. اختنقت بأهلها. حاصرها الموت لمّا اشتغلت خادمة في بيت بدرية وهي ابنة ثلاثة عشر عامًا. حاصرها الموت لما استكثروا عليها الحبّ. حاصرها الموت وهي تحترق بالبوخا. وحاصرها حتى بعد رحيلها حين اقتصر تكريمها على وثائقي مدته بضع دقائق وكلمات لا تتجاوز المعتاد.»
هي كلمات تؤلم، لكنها تُنير. فالمؤلفة لا تُقدّس ولا تُزيّن، بل تعيد لصليحة إنسانيتها وصوتها ووجعها، تلك التي كثيرًا ما غُطّيت بهالة المجد الزائف.
فعل إنصاف
في أحد المشاهد القوية من الرواية، تحاور الكاتبة صليحة. تسألها: “ما الكذب؟”، فتُجيب:
«الكذب هو شغف التعلّق بالوجود إلى حدّ اختلاق قصص نقنع أنفسنا بها لعلّ هرمون الدوبامين يرتفع لدينا. حياتي كانت كذبة تتأرجح بين ضفتين.»
عبارة تختصر كل شيء. فالمجد قد يُخفي الجراح، والذاكرة الجماعية قد تُطمس الحقيقة. ما نسميه “إرثًا فنيًا” لا يكون عادلًا إلا إذا أنصف من صنعه، لا من استهلكه.
رواية بثينة الغريبي هي إذًا عمل أدبي جريء، وصرخة نسوية، وموقف أخلاقي. تُذكّرنا بأننا لا نستطيع الاحتفاء بالتراث دون مساءلة السياقات التي دفنت أصحابه.
صوت يخرج من الأعماق
في هذا النص، لم تعد صليحة مجرد رمز موسيقي. عادت صلوحة إلى السطح – الطفلة المجروحة، والمرأة المقهورة، والصوت الذي حمل ذاكرة شعب وألم جيل، ثم وُئد بهدوء في ردهات التهميش والسلطة الذكورية.
مع «كيف صارت صلوحة صليحة؟»، تتحوّل الرواية إلى مقام للذاكرة، ومساحة للمحاسبة، وصرخة ضد النسيان.
وصوت صليحة، بعد أن كاد يُخنق في الأرشيف، يعود ليرنّ، لا فقط عبر الأثير، بل في الضمير.
شارك رأيك