غادرنا يوم الجمعة 13 جوان 2025 الأستاذ المتميّز بجامعة ليون والمؤسّس والمدير السابق لقسم اللغة والآداب العربية بكلّية الآداب والعلوم الانسانية بليون، الأستاذ عامر غديرة عن عمر 99 سنة. وبهذه المناسبة الأليمة وبحكم علاقتي المتينة بالمرجوم، حيث كنت اتردّد على بيت شقيقته زهرة بضاحية صقانس كلما حلّ بمسقط رأسه، مدينة المنستير وحواري المطوّل معه في برنامج الاذاعي “شهادات حيّة” ثلاث حلقات بثّت أيام الأحد 29 جوان و 6 و 13 جويلية 2014)، ووفاء لروحه أضع هذه البيوغرافيا المختصرة التي ترسم حياة وخصال الرجل ومسيرته الحافلة بالمآثر والمواقف المشرّفة في مجال التربية والتعليم والنضال بالقلم في المنابر الفكرية الأكاديمية بكل من فرنسا وتونس.
عادل بن يوسف *

الولادة والنشأة والتكوين: ولد الأستاذ محمّد عامر غديرة بمدينة المنستير في 27 أكتوبر 1926 وسط أسرة وطنيّة متعلمة من أصول بربرية قدمت من المغرب الأقصى إلى تونس (نسبة إلى وادي غاديراس)، شأنها شأن عائلة مزالي (من قبيلة آية مزال ببلاد السوس)، للمرابطة ثمّ العيش بمدينة المنستير. نشأ مع أخيه حمّادي غديرة (مهندس فلاحي سيصبح منذ مطلع الاستقلال مديرا عامل لديوان إحياء أراضي وادي مجردة ثمّ رئيسا للاتحاد الوطني للفلاحين فوزيرا للفلاحة…) وشقيقته زهرة إضافة إلى أربعة اخوة غير أشقاء من زوجة والده الأولى.
في غرّة أكتوبر 1932 التحق الطفل محمّد عامر غديرة بالمدرسة الفرنسية- العربية بالمنستير مع الرباعي محمّد مزالي وأحمد ونّاس ومحسن البواب ومحمّد هاشم شقشوق، حيث زاول تعليمه الابتدائي وتتلمذ على خيرة معلميها وفي مقدمتهم مدير المدرسة ومهلّم الرياضيات، السيّد “هنري بيتاش” (Henri Petech) مجنّد سابق في الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى حيث فقد عينيه وزوجته معلّمة الفرنسية “مدام بيتاش” والمعلّم التونسي محمّد زهرة…
وفور حصوله مع هذا الرباعي على شهادة ختم التعليم الابتدائي، نجح في مناظرة الالتحاق بالمدرسة الصّادقيّة بتونس العاصمة حيث تتلمذ على خيرة أساتذتها الفرنسيّين والتونسيّين وفي مقدمتهم عبد الوهاب بكير والأستاذ محمود المسعدي والشيخ الفاضل بن عاشور…
وإثر حصوله على البكالوريا سنة 1946، سافر إلى فرنسا لمواصلة تعليمه العالي في اللّغة والآداب العربيّة بجامعة السربون. وفي سنة 1949 أحرز على الإجازة. وفي سنة 1952 اجتاز بنجاح مناظرة التبريز في اللّغة والآداب العربيّة فكان من بين المبرّزين القلائل في هذا الاختصاص بتونس خلال الفترة الاستعمارية (المبرّز عدد 12 في تونس وشمال إفريقيا، كان أولهم الأستاذ محمّد عطيّة سنة 1932).
مسيرة مهنيّة بين تونس وفرنسا وخَيْبَتَا أمل في حكومة الاستقلال: إثر عودته من فرنسا باشر الأستذا الشاب محمّد عامر غديرة التدريس بالمدرسة الصّادقيّة (من 1952 إلى 1954) ثمّ بمعهد مونفليري للفتيات. وفي سنة 1955 دُعي للتدريس بجامعة ليون دون أن يكون بها قسم للغة والآداب العربية (شهادة عليا فحسب) وذلك بالتوازي مع تقديم دروس للطلبة الذين كانوا يعدّون مناظرة التبريز بالسربون. وبمدينة ليون تعرّف على شريكة حياته، الآنسة “آن ماري” (Anne Marie)، أستاذة فرنسية بالتعليم الثانوي توفيت سنة 2009)، أنحب منها ولدا: جان – عامر ولد سنة 1962، مديرا بالشركة الوطنية للسكك الحديدية بفرنسا) وبنتين هما: “لوسيل” (Lucille)، صحفية بجريدة “باريس” (Paris)، و “آلين” (Aline)، مهندسة فلاحيّة.
وفي سنة 1961 أعدّ برنامجا متكاملا يقضي بإحداث كتابة دولة (وزارة حينئذ) للثقافة قدّمه إلى الرئيس الحبيب بورقيبة الذي عيّن على رأس كتابة الدولة للثقافة والإعلام المحدثة في 7 أكتوبر، الأستاذ الشاذلي القليبي الذي ألحقه بديوانه، فقبل المنصب عن مضض لكن سرعان ما غادر الديوان بعد أن طُلُب منه ترجمة خطب الرئيس بورقيبة إلى اللغة الفرنسية. فكانت خيبة أمله الثانية في حكومة الاستقلال. فقد سبق أن حصل له خلافه مع أستاذه، كاتب الدولة للتربية القومية، الأستاذ محمود المسعدي الذي رفض تعيينه بالمدرسة الصادقية أو بمعهد الدراسات العليا بتونس (مؤسّسة تعليم عال أحدثت منذ ديسمبر1945) وقد أثر ذلك في نفسيته أيّما تأثير. وبعد تفكير مليّ مع شريكة حياته، قرّر في خريف 1964 العودة من جديد إلى فرنسا فشدّ الرحال نحو مدينة ليون حيث أسّس وأدار قسم اللّغة والآداب العربيّة بجامعة ليون وذلك إلى غاية خروجه إلى التقاعد سنة 1996 وحصوله على درجة التميّز منها “مدى الحياة”.
إنتاج فكري غزير ومتميّز: منذ سنة 1953 وإلى غاية السنوات القليلة الماضية نشر الأستذا محمّد عامر غديرة عشرات المقالات والدراسات بتونس وخارجها بعديد المجلات والدوريات والصّحف التّونسيّة، نذكر من بينها: مجلة “الندوة” و ” الفكر” و ” الوحدة” و “العمل التّونسي”… الخ. و مثيلها من المقالات منذ سنة 1964 بالمجلاّت والدوريّات الأكاديمية الفرنسيّة والأجنبيّة المتخصّصة و المحكّمة.
وفي سنة 1957 ترجم القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية وأصدره عن دار النهر (Editions du Fleuve) بمدينة ليون.
كما أصدر الأستاذ محمّد عامر غديرة عديد الكتب باللّغتين العربيّة والفرنسيّة صدرت عن دور نشر محترمة بكل من تونس وبفرنسا وبدول أخرى من أبرزها:
– حوار حول الاسلام واللائكية، تونس 1960.
– ديوان الأخوين بن أبي عُيَيْنَة، منشورات المعهد الفرنسيّ بدمشق، دمشق 1964.
– هل نحنُ في دار هجرة؟، دار الغرب الإسلامي بيروت 1994، 350 صفحة.
– الشابّي حياته وترجمة أشعاره، طبعة المائوية، مطبعة الاتحاد، تونس أكتوبر 2009.
– Le Coran, Nouvelle traduction, Enluminures de Jean Gradassi, Lyon Editions du Fleuve, Lyon 1957.
– Abu- Al Qasim Chabbi (1909-1934) Poèmes (traduction de l’arabe), Editions Pierre Seghers, Paris 1959, 66 pages, Couverture illustrée.
– Méthode d’arabe littéral, Livre 1, (avec Gérard Lecomte), Editions C. Klincksieck, Paris 1960, 180 pages.
– Méthode d’arabe littéral, Livre 2, (avec Gérard Lecomte), Edition C. Klincksieck, Paris 1961, 180 pages.
– Textes littérairesarabes des XIXe et XXe siècles, Études arabes et islamiques, Edition C. Klincksieck, janvier 1987, 182 pages (4 ème réédition en 1995).
هذا وقد تولى صديقه، الصيدلاني، الدتور رشاد بسباس نشر الرسائل التي كان يتبادلاها معا بين ليون والمنستير في كتاب وسمه: 44 رسالة بيني وبين الأستاذ محمّد عامر غديرة، أعدّها للنشر وقدّمها رشاد بسباس، المكتبة الثقافية، المنستير 2022، 80 صفحة.
كما للأستاذ محمّد عامر غديرة عديد الأعمال غير المنشورة المتّصلة بمسائل اللّغة والآداب العربيّة والترجمة إلى اللّغة الفرنسيّة…
هذا وسيوارى جثمانه الثرى بالمقبرة الاسلامية بليون حيث دفنت زوجته سنة 2009 وذلك يوم الأربعاء القادم بحضور أبناءه وأحفاده وزملاءه وأصحابه وأفراد عائلته المقيمين بفرنسا.
رحم الله الفقيد ورزق أهله وذويه جميل الصبر والسلوان. وَإِنَّمـا المَـرءُ حَـديـثٌ بَـعـدَهُ فَكُن حَديثـاً حَسَنـاً لِمَـن وَعـى (ابن دريد).
* جامعة سوسة.
شارك رأيك