«الڨيشي» لريم علوان : مرايا الصوت والخفاء

في روايتها «الڨيشي، شباك التعريف بالإمضاء» الصادرة مؤخرا بتونس عن دار النشر أركاديا، و في مشهد سردي يبعدنا عن التفاهة ويقربنا من جوهر الوجود، تفتح ريم علوان نافذتها على عالم متواضع لكنه غني بالألم والصراعات الخفية. “الڨيشي” ليست رواية تروى كحكاية متكاملة، بل نص ينبعث من بين طيات الحياة اليومية، يحكي بلغة الناس، بلهجتهم الممزقة بين تونسية صرفة ولمسات فرنسية، كما لو أن النفس نفسها ترتجف بين الكلمات.

جمال قتالة

“الڨيشي” ليس مجرد مكان إداري، بل فضاء شفاف يتسرب منه صوت الإنسان العادي في تونس، حيث تتكسر الواجهات الرسمية وتتلوى الذات في صراعاتها الداخلية. الحكاية تدور حول أولئك الذين يقفون وراء الشباك، لكن الكتابة لا تبقى عند سطح المكان، بل تغوص في عمقهم، تحت المجهر، تلتقط تفاصيلهم الصغيرة، شكواهم الصامتة، آمالهم المهشمة، وهمومهم التي لا تُقال.

اللغة هنا ليست مجرّد أداة، بل جسد ينبض ويئن، صرخة مكتومة تتسلل من بين الجمل المقطوعة والهمسات المتكررة. كلمات بالدارجة تتداخل مع الفرنسية، ليست للتجميل، بل لتعكس انقسام الهوية التي يعيشها الإنسان التونسي المعاصر، بين جذور متينة وآفاق متلاشية.

زمن يفتقر فيه الناس إلى الخيارات

البيت في الرواية ليس ملاذًا مقدسًا، بل مساحة تتآكل فيها الثقة، حيث يُقال: «كون حذر مع أخيك». تحذير لا يُوجَّه للعالم الخارجي، بل للداخل، لمنطق الجدران التي تحتضن صراعات غير معلنة. هذه النزعة إلى كشف هشاشة العلاقات العائلية تُعيد صياغة صورة مألوفة، بعيدة عن المثالية الزائفة، لكنها مليئة بالحزن الهادئ.

الصبر ليس فضيلة هنا، بل ضرورة قاهرة. «حتى لو تعبانين، لازم نصبر على الحياة» ليست مجرد قول مأثور، بل إعلان وجودي في زمن يفتقر فيه الناس إلى الخيارات، يعيشون ليستمروا، لا لينتصروا. هذه الرواية ترفض أبطال الانتصار المبهر، وتحتفي بصمود من يواجهون حياتهم اليومية بهدوء مهيب، في زمن تكثر فيه الصرخات الزائفة.

الشباب ليسوا هنا رمز الأمل بقدر ما هم حمولة ثقيلة. «كون شاب زين» جملة تتردد كوصية لكنها ثقيلة، كأنها إرث لا يطاق، بين رغبة في النجاح وواقع لا يرحم. هذه الثنائية تعكس المعضلة الأزلية للجيل الذي يأتي بعد جيل، مطالبًا بالتحمل أكثر من التغيير.

الوجع الذي يختبئ خلف الكلمات

ريم علوان تختار أن تخلو من الوصف التفصيلي، تاركة الكلمات والحوار تشكّل البيئة والمزاج النفسي. بهذا، تتحول الرواية إلى فضاء صوتي داخلي، حيث الكلام هو المشهد، والسكوت هو المساحة الأعمق. هذا الإجراء الروائي يعكس فهماً عميقاً لأهمية الداخل النفسي كمرآة تعكس واقعًا اجتماعيًا معقدًا.

“الڨيشي، شباك التعريف بالإمضاء” ليست رواية تلتقط الأنظار بصخب، بل نص يربت على كتف القارئ، يهمس له بأن الوجع الذي يختبئ خلف الكلمات هو وجعه أيضًا. إنها دعوة لفهم أعمق، لقراءة بين السطور، للاصغاء إلى صمتٍ ينبض بالحياة.

إذا كان الأدب الحقيقي هو القدرة على التعبير عما لا يُقال، فإن ريم علوان تقدم لنا هذا الأدب في أبهى صورة، نصّ يتنفس بين الكلمات، يعيشنا اللحظة، ويجعلنا نحتضن إنسانيتنا المبعثرة.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.