في مشهد أدبي عربي لا يزال يحاول إعادة تعريف موقع المرأة الكاتبة، تبرز غزلان تواتي كواحدة من الأصوات الجديدة التي تراهن على القصة القصيرة كفضاء للتجريب الجمالي وكأداة لكسر التواطؤ مع الصمت. كاتبة جزائرية تنتمي إلى الجيل الجديد من القاصات اللواتي لا يكتبن لمجرد الحكي، بل يكتبن للتمزيق، للتعرية، ولتفجير المسكوت عنه بلغة تقف على تخوم الشعر والاعتراف.
جمال قتالة
صدر لغزلان تواتي مجموعتان قصصيتان خلال السنوات الأخيرة، شكّلتا مدخلاً فنيًا مميزًا إلى عالمها السردي: “النساء لا يفعلن ذلك” (2022)، عن دار فضاءات للنشر والتوزيع (الأردن)، و”توقيت غير مناسب لشراء السمك”* (2024)، عن دار “هن” للنشر بالقاهرة.
في هذين العملين، تنسج تواتي عالماً يضج بالأسئلة أكثر مما يعرض إجابات. تكتب عن النساء اللواتي يعشن على الهامش، في المدن أو داخل البيت، بين الانكسارات اليومية والتمرد الصامت، بين الرغبة في الانفلات والاصطدام بجدار الواقع. بطلاتها لا يبحثن عن خلاص فردي، بل يتمسكن بالوجود في حدّه الأدنى: أن يَكُنّ، أن يُسْمعن، أن يُكتَب عنهن لا بوصفهن رموزاً، بل ككائنات حساسة، متناقضة، وقلقة.
تتموضع غزلان تواتي، أسلوبيًا، في منطقة تتقاطع فيها القصة مع الشعر، حيث تتخلّى عن السرد التقليدي لصالح الكتابة المكثفة، اللمّاحة، والموحية. نصوصها قصيرة، مشدودة، غالبًا ما تبدأ بواقعة بسيطة لتنكشف تدريجياً عن عمق إنساني جارح. إنها كتابة اليوميات المؤجلة، والألم المُعاد صياغته بلغة باردة في ظاهرها، ملتهبة في باطنها.
ما يميّز تجربة تواتي أيضًا هو حضور ثنائية الغربة والانتماء، لا باعتبارها فقط وضعية جغرافية بل تجربة شعورية ونفسية. المرأة في نصوصها تغترب عن جسدها، عن مجتمعها، وعن وطن لم يكن سخياً معها. ومع ذلك، لا تسقط القاصة في خطاب الضحية، بل تمنح شخصياتها هامشاً من الإرادة والمقاومة، حتى ولو جاء ذلك في شكل صمت متوتر أو رفض داخلي.
من خلال قصصها، تقترح غزلان تواتي تصوراً آخر للكتابة النسائية: ليس ذلك الذي يُطلب منه تبرير الذات أو تمثيلها، بل ذلك الذي يضيء الزوايا المعتمة، ويترك للقارئ أن يكتشف الألم والتمرد دون وصاية. إنها كتابة لا تهدف إلى الصدمة، بل إلى تعميق الصمت وتثبيته كحالة وجودية.
في زمن يتسابق فيه الأدب نحو الاستعراض والسرعة، تقف غزلان تواتي في الضفة الأخرى: ضفة الحفر الهادئ، والاقتراب الحميمي من هشاشة الحياة. القصة، في أعمالها، ليست فقط حكاية تُروى، بل مساحة يتنفس فيها المهمّشون، وتُستعاد فيها كرامة الغائبين بصوت منخفض… لكنه لا يُنسى.
شارك رأيك