سؤال صعب : هل يخضع القضاء التونسي للتعليمات كما يتـهمه البعض ؟ 

إذا كان القضاء في فرنسا والولايات المتحدة وغيرها من معاقل الديمقراطية ودولة القانون خاضعا بنسب متفاوتة إلى السلطة التنفيذية فهل يصح القول بأن القضاء في تونس مستقل و غير خاضع لأهواء الحاكم ؟

أحمد الحباسي

“لا تثقوا كثيرا  في قضاء بلدكم”: هذا ليس تصريحا لأحد السياسيين بل هو عنوان قيّم  لكتاب ألّفه القاضي الفرنسي كلود بوتان يكشف فيه أسرار العدالة الفرنسية وتحكم السياسة في القرارات القضائية للمحاكم الفرنسية. يقول القاضي و النائب السابق لرئيس محكمة روان الفرنسية في إحدى مداخلاته الإعلامية أن القضاء الفرنسي خاضع لتعليمات الحكومة قائلا: “القضاة بفرنسا ليسوا مستقلين ولا يمكن للمرء أن يثق في عدالة بلده”، مضيفا بالحرف الواحد أن هناك ضغوطًا في الداخل والخارج تمارس على القضاة لاتخاذ القرارات، مبرزا أن القوى السياسية هي التي تحدد مجرى العدالة “حيث يتم دائما إخضاع العدالة للسلطة”. منتهيا بالقول  بأن “استقلالية قضاة التحقيق ليست سوى خدعة يرميها المرء تحت أنوف المغفلين الذين يثقون في عدالة بلدهم”.

فى الكتاب أيضا تفاصيل مثيرة من بينها أن  قاضي التحقيق بفرنسا يخضع بشكل خاص لضغوط تراتبية من المدعي العام الذي سماه “بالجندي الصغير للوزير”. مضيفا: “ أنا كقاض لا أثق بقضاء بلدي، و بطبيعة الحال لا يمكن لأي محام أن يثق بأنه سيكسب قضيته العادلة”. 

الحاجة إلى مسافة أمان بين السلطة والقضاء

في هذا السياق لم يعد مستغربا أن تؤكد دراسة حديثة أن أكثر من نصف الفرنسيين لا يثقون فى نظامهم القضائي مع أن السلطات الفرنسية لا تفوت أية فرصة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى منددة بقصور قضائها.

في تونس، قد لا يختلف حال القضاء في علاقة بوجود التعليمات و التجاوزات و خرق القانون و المسّ من حرية التعبير عن حال القضاء في فرنسا، هذا الرأي  ليس رأيا شخصيا اعتباطيا مرسلا بل هو مضمون مداخلة و تصريحات عديد  كبار القضاة التونسيين من القاضية  كلثوم كنّو إلى روضة العبيدي إلى أحمد الرحموني إلى أنس الحمادي – وهم من قامات القضاء في تونس قبل وبعد ثورة 2011 – و آخرهم طبعا الرسالة المفتوحة الموجهة رأسا من القاضي رضا المجدوب إلى رئيس الجمهورية قيس سعيد و التي طالبه فيها علنا و بمنتهى الجرأة و الوضوح بعدم مواصلة التدخل في القضاء و بترك مسافة أمان بينه و بين السلطة القضائية.

ربما أثارت هذه الرسالة ردود فعل مختلفة  لكن من الثابت أنها جاءت في سياق تنبيه السلطة الحاكمة من الوقوع في ممارسة التدخل في القضاء الذي سيضطر لإصدار أحكام تعسفية ظالمة و هو ما نبه إليه المفكر عبد الرحمان بن خلدون حين قال أن الظلم مؤذن بخراب العمران بحيث يجب أن يتمتع القضاء بمبادئ تمكن القاضي من ممارسة مهنته بكل استقلالية و حرية من دون خوف أو خشية من ردود أفعال أصحاب السلطة لا تختلف عن ردود أفعال رئيس الدولة حين تساءل في إحدى مداخلاته علنا  “كيفاش سيبوها و لاخر علاش ماوقفوهوش ومتع الفسفاط لواه سيبوهم”…

تحجيم المؤسسة القضائية و إخضاعها

ربما أشاع الرئيس قيس سعيد خطابا مزدوجا يقول فيه الشيء و نقيضه فمن جهة يعلن أنه مع استقلال القضاء و لا يتدخل فيه  لكنه لا يتردد عن تحجيم المؤسسة القضائية في أهم ركيزة من ركائز استقلاليتها و هي تحويل القاضي إلى مجرد موظف عادي لا حول له و لا قوة لا يرى في السلطة إلا  كونها الجهة الوحيدة التي تنفق عليه و تقوم بمساعدته على تنفيذ التزاماته اليومية بصفتها الجهة المانحة لمرتبه دون غيرها.

لا يتردد رئيس الدولة أيضا عن ممارسة دور تحريضي على بعض رموز القضاء و لعلّ ما أحاط بنقلة القاضية رئيسة المحكمة الابتدائية بمنوبة السيدة آسيا العبيدي إلى محاكم الكاف إثر قضائها بسراح السياسي العياشي الزمال دليل آخر على تدخل السلطة ـ السياسية أو الإدارية ـ و انزعاجها من قيام القضاء بدوره الأصيل و عدم خضوعه للتعليمات بما يجعل بعض القضاة بمثابة المتمردين الذين يجب إخضاعهم بكل الطرق بما فيها النقل التعسفية و تعطيل مسارهم المهني و لما لا التشهير بهم و تسريب بعض المعلومات المزيفة حولهم إلى أمثال المحلل رياض جراد الذي لم يتورع عن تنظيم محاكمة إعلامية لهؤلاء القضاة الذين تحملوا كل هذا التنكيل بهم و بعائلاتهم دون حول أو قوة.

القضاء أداة تحكم قوية في يد السلطة

ربما خصص دستور 1959 بابا اعتبر فيه القضاء سلطة و ربما تميّز دستور 2014 بتخصيص باب للسلطة القضائية على اعتبار أنه لا يمكن الحديث عن استقلال القضاء من دون الاعتراف بأن القضاء سلطة شأنها شأن بقية السلط الأخرى و ربما بحث المجلس التأسيسي إثر اندلاع الثورة على تقييد صلاحيات المنظومة القضائية لكن من الثابت اليوم أن القضاء قد تحول إلى أداة قوية في يد السلطة.

لا يمكن فهم العلاقة المتوترة بين السلطة التنفيذية و السلطة القضائية إلا من خلال ما دونه القاضي الهادي المجدوب من مؤاخذات و ملاحظات في رسالته المفتوحة الموجهة لرئيس الدولة. لذلك يعتبر كل الملاحظين اليوم أن قلعة القضاء الشامخ قد سقطت شيئا فشيئا و بات من الصعب ترميمها أو البحث عن أنجع الطرق لإرجاع إشعاعها  المسلوب – هذا إن كان لها إشعاع أصلا حيث ظل القضاء دوما في تونس أداة تحكم قوية في يد السلطة السياسية.

كاتب و ناشط سياسي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.