الهجرة النبوية الشريفة أحدثت تحوّلا كبيرا في العلاقات الإنسانية، إذ شهدت ملحمة أسطورية بين المهاجرين الذين تركوا كل شيء وراءهم من أجل الله متجهين إلى المدينة المنورة، وهناك استقبلهم الأنصار بحفاوة كبيرة، جمعهم الإيمان بالله والثقة بالله والتوكل على الله والاستعانة بالله وحده، واتباع رسول الله محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فكان المشهد دراماتيكيًّا ونوعيًّا فسّر حقيقة العلاقة بين المؤمنين في عصر النبوة حيث الاستقبال الباهر والكرم الظاهر والإيثار النوعي الماهر الذي لم يحدث في التاريخ مثله أبدا.
فوزي بن يونس بن حديد
لماذا لا يتعظ المسلمون من هذه الذكريات والمناسبات؟ ولماذا يقتصر احتفالهم بهذه الذكرى على المواعظ والأناشيد والطيّب من المأكولات والمشروبات، والسهرات في المساجد والقاعات ويسمون ذلك احتفالا بالهجرة النبوية الشريفة، بينما هم يقبعون في المعاصي والمآسي والمصائب والمتاعب ولا يبالون، ويعتقدون بأن ما يقومون به من نقرات في أداء الصلوات وغيرها من العبادات ستفي بدخولهم الجنات ونسوا أن العمل مضن، والجنة لا يدخلها الإنسان إلا بعد مشقة وتعب وتضحية وإيثار وجهاد ومكابدة وسهر وتحمل وصبر وكظم الغيظ والكف عن الأذى وصون الحرمات، واجتناب المنكرات والموبقات.
موجات من الظلام حسبوها إسلامًا
أكاد أجزم أن كل المجتمعات الإسلامية في عالمنا تموج بهذه الملهيات، وهذه المسكرات التي أسكرت الأمة الإسلامية وأبعدتها عن دستورها القرآن الكريم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأدخلتها في موجات من الظلام، حسبوها إسلامًا، وكما يُقال هو إسلام علماني، ولكنه في الوقت نفسه ظلمات غشيت الأمة وأعمت بصيرتها عن قضاياها وحقيقة ما يجري في هذه الدنيا.
ما نعيشه اليوم وهم كبير، وتظليل لفلسفة الإسلام العظيمة التي تجعل الأمة قوية في مواجهة التحديات الجمة التي ألمت بها، وأولاها ما يجري في غزة اليوم، من نزيف حاد للأرواح البشرية حتى صارت حالة عادية يقرؤها الناس في هواتفهم ويتفرجون على مشاهد الذبح والإبادة التي تقوم بها الصهيونية ويتجادلون الجدال العقيم والمراء المشين حول ما قامت به حماس هل هو جهاد أو انتحار، وهل الصهيونية هي اليهودية أو أن اليهودية دين والصهيونية قومية، والحال أن اليهود يمزقون أجساد شبابنا ونساءنا وأطفالنا كل يوم على كيس طحين يتقاتلون من أجل الحصول عليه، والشاحنات مكدسة على باب مدينة رفح تنتظر الإشارة من نتنياهو الذي يعيش أيام زهوّ بعد أن عجز العرب شرقا وغربا عن مدّ إخوانهم بشربة ماء أو كسرة خبز.
العزة والكرامة لا تأتي على سجاد أحمر
يا للعار، أمة بلا أمة، لا تفقه من الدين إلا الفتات، تعلمت الركون والكسل والخجل من الأعداء، رغم أن الله تعالى خاطبهم من فوق سبع سماوات بأن أعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوكم، ونسوا أن العزة والكرامة لا تأتي على سجاد أحمر، ولكنها تأتي بالبذل والعطاء.
أمة تملك من القوة ما تملك، تعجز عن إدخال قطعة خبز من معبر رفح أو من أي معبر كان، رضي الإسرائيليون أم أبوا، وقد بينت لنا الحرب الأخيرة مع إيران أن القوة وحدها هي التي تفهمها إسرائيل، أما الاستسلام والخنوع والخضوع أو ما يسمى بالسلام، فكلها أوهام، ولنا في المجاهدين الأبطال على أرض غزة آية، ولنا في إيران ألف آية، كيف استعدت لهذا اليوم الذي أعلن فيه نتنياهو الاستسلام وطلب من أمريكا التدخل العاجل لإنقاذ إسرائيل من الزوال، وكيف أن أمريكا بجحافل قوتها كانت تهاب إيران وردّها، فآثرت أن توقف الحرب، لأن المفاجآت كانت أكبر من الوقائع على الأرض.
هذه هي العظة الكبرى من حادثة الهجرة أن نكون سندا لإخواننا الذين يحاربون العدو، لا نكون سندا للعدو على إخواننا، علينا أن نعرف كيف نكون أنصارا لله ولعباده المؤمنين لا أن نكون عونا عليهم ونتمنى لهم الزوال، فغزة تعاني فعلًا من أشدّ العذاب، والمجاهدون مرابطون وصامدون، وإسرائيل عاجزة عن إنقاذ أسراها من قبضة حماس، والمشهد لن يطول بإذن الله تعالى، وأن الفرج قريب، وما على المسلمين المخلصين إلا الاستيقاظ، ولا يكتفون بالسهرات في المساجد، والانكباب على المأكولات والمشروبات وكأننا في مهرجانات.
شارك رأيك