كل استثمار في الثقافة هو استثمار في الأمن

حافظت الذاكرة الجماعية على الحي والمقهى الشعبي كنسخة مصغرة عن المجتمع، ومتنفّس للأجيال المتعاقبة عبر الزمن. في ركن ما من الحي تشكّل “مقهى الذاكرة” ليصبح جزءًا من نسيج المكان وذاكرته وحلبة صراع للأفكار وسقفًا للهاربين من خيبات وخذلان الواقع. كان فضاءً مفتوحا يرتاده رجال الثقافة  والسياسة وعامة الناس وكلّ من يرغب في الاستماع إلى نبض البلاد الحقيقي. نعيش اليوم ظاهرة اجتماعية ملفتة للانتباه وهي كثرة المقاهي ” فبين كل مقهى ومقهى مقهى” ولا أرى في ذلك أيّ مؤشر صحّي أمام تزايد روّادها على حساب النوادي التي تراجع عددها ودورها.

 العقيد محسن بن عيسى

الحي الشعبي الحاضن  الأخير للقيم

بدأت مثل أقراني في سنّ الشباب زمن الدراسة في الستينات أميل لأحد المقاهي بالحي. أخذت مكاني في هذا المسرح الصغير للحياة، وفي هذا المتنفس لطاقات الشباب. لم يكن المكان على معنى “مقاهي الأدباء” المشهورة عربيا وفي العاصمة، ولم  يكن صورة من صور “التهميش المزمن” كما تصوره بعض الأقلام، بل كان فضاءً متواضعًا يشبهنا ونشبهه في ثرائه الروحي.

كان الحي بالنسبة لجيلي ليس فقط مكانًا  للسكن، بل هو نسيج اجتماعي وثقافي متماسك تنتقل فيه القيم (الكرم، التعاون، الحياء، حب الوطن..) من جيل إلى جيل عبر (العائلة والجيران والمسجد والمقهى، والسوق، والمناسبات).  لقد كان الحي رغم صعوبة الحياة في بداية دولة الاستقلال وفيّا لجوهره الأخلاقي، حاملا بين جدرانه المتآكلة بذور الصمود والكرامة، وكأنما قدره أن يكون خطّ الدفاع الأخير عمّا تبقّى من روح وطنية أصيلة.

كان الفقر يتكلم بيننا والأرجل الحافية تحكي معاناتها اليومية، ولكن سكان الحي كانوا يعرفون بالفطرة  أنّ الخبز بدون كرامة لا يُؤكل، وأنّ الحرية ليست ترفًا بل شرط البقاء. كانوا يشعرون  بوجود الدولة حولهم بحضور خفيف ولمسات بسيطة. عاش أغلبهم فتح نقاط توزيع الحليب المجاني للتلاميذ في الصباح وتقديم وجبات غداء  في المدارس وخارجها  مع مساعدات في الأدوات المدرسية وكذلك في اللباس. حرص الكثير رغم قلة الإمكانيات على أن يكون لهم اشتراك في المكتبة العمومية، وأن يشاركوا في الـ “سيني كلوب” (أو نادي السينما) يوم الجمعة بسعر رمزي. أسماء كبيرة خرجت من هذا الواقع بفضل التكافل الاجتماعي والتعليم والثقافة وتحمّلت مسؤولياتها في الحياة العامة وأجهزة الدولة باقتدار ونزاهة.

أُدرك تماما  بشيء من الأسف أنّ الحياة  اليوم تغيرت، وأنّ العلاقات البشرية تراجعت وفقدت عافيتها. وعلينا أن نقنع أنفسنا  بأنّ التغيير جزء طبيعي من الحياة. من السهل أن يتحدث السياسي عن التنمية، ويطالب الخبير بـ “إصلاحات اقتصادية “. ويتحدث آخرون لمجرد الحديث وخارج السياق. والمطلب المستعجل هو المراهنة على الحي الشعبي كرافد لثقافة المجتمع ولكل لونٍ وفنٍّ، فالتغيير هنا يعطي فرصة للتطور ويساعد على التكيّف معه.

ما الذي يمنع وصول الثقافة إلى الهامش؟

ليس صحيحًا أنّ الفقر في الحي الشعبي يولّد فكرًا متخلفًا، والحقيقة أنّ العقلية الجماعية في الأحياء تأخذ وقتا طويلا لتنضج. ومهما كان مستوى نُضجها تبقى عاجزة دون إرادة سياسية على مواجهة البطالة واليأس وتمدّد دوائر المخدرات والعنف إلى جانب ضعف البنية التحتية وغياب الخدمات الاجتماعية. ولا غرابة في أن يُنتج هذا “الواقع المر” بيئة خصبة للانحراف ويعمّق الإقصاء ويزيد من تفكّك الروابط الاجتماعية.

 لهذه الأسباب وغيرها تزايد منسوب العنف في أغلب الأحياء وفي الشارع وفي الواقع اليومي بشكل عام مستنزفا أيّ مناعة وطنية ممكنة. لا أستطيع أن أتفهم  ذلك، ولكني أفهم أنّ ما يجري ليس مجرد أمر مادّي قابل للتغيير تلقائيا. فالأحياء تمثل عمقًا إنسانيًّا والسؤال حول المعالجة هو: كيف نجعل الثقافة أداة تحرّرٍ وبناءٍ فيها؟

الثقافة ليست مجرد وسيلة ترفيه، بل أداة لبناء الوعي، إنها تمنح الأفراد خاصة في المناطق الضعيفة، القدرة على الحلم وتعيد الإحساس بالقيمة والكرامة. حين يُمنح الشاب أو الفتاة في عمق حي شعبي فرصة الصعود على خشبة مسرح، أو رسم جدارية تعكس همومه أو كتابة نص يُترجم غضبه وأمله فإنه يُخرج ما بداخله بطريقة سلمية وجمالية، ويدخل في دائرة الحياة النشطة بدل العنف السلبي.

لقد أوقع تجاهل هذه التجارب الناجحة دارسي علم الاجتماع ومن ورائهم السياسيين في متاهات هدر الكثير من الجهد والوقت والإمكانات المادية في برامج ثقيلة دون نتيجة أو دون المأمول. لقد أخفقت التجارب المسقطة والمشاريع ذات الطابع الاستعراضي في تحريك بنية المجتمع ككل، وجعل المواطن الضعيف في قلب كل المعادلات.

الثقافة تغيّر الواقع

في مدن كثيرة  حول العالم أثبتت المبادرات الثقافية الموجهة للأحياء الشعبية قدرتها على التغيير. من مهرجانات الشارع إلى المكتبات المتجولة، إلى المدارس الفنية المفتوحة إلى المقاهي الثقافية. كلها مكنت آلاف الشباب من الخروج من دوائر الإقصاء والولوج إلى مجتمعات حية ومنتجة.

التجارب تُثبت أنّ كل استثمار في الثقافة هو استثمار في الأمن، في الصحة النفسية، وفي بناء مجتمع متماسك. الكلمة، واللون، والإيقاع، بإمكانهم أن يغيروا ما لم تغيّره السياسات. هناك حاجة إلى وضع الأمور في إطارها البشري الصحيح وأن نقف طويلا عند الحاجة لتدريب العقل الجماعي عامة وفي الأحياء الشعبية خاصة على التفكير والتصرف بشكل سليم.

ليس من الانصاف تجاهل أنشطة المؤسسات الشبابية والثقافية الجارية ولا يمكن لي تقييمها، ولكن يبقى نشاطها مقيّد بالدور الرسمي. هناك إمكانية  لتحويل الحي الشعبي إلى فضاء ثقافي يجمع بين العفوية اليومية للأهالي وبين أنشطة بسيطة وهادفة تعزّز القيم، وتعيد ثقة الجيل المهمش في ثقافته وهويته المحلية. هناك دور جديد للمثقف يتعدى الكتابات الأدبية والحلقات النخبوية، للإسهام في إعادة الحياة إلى الحي عبر أنشطة ثقافية غير مُكلفة، وتثمين الذاكرة وتشجيع الحوار بين الأجيال.

من الأمثلة الناجحة دوليا:

 – تجربة (المناطق الثقافية الحرة) في ضواحي باريس ومرسيليا والتي تبنت الدولة تشجيع الفنانين والمثقفين على العمل والإقامة بها مقابل دعم مادي. لقد أنجبت هذه المبادرات مشاهد فنية (موسيقى الراب، فنون الشارع، السينما المستقلة)، وخلقت فرص عمل جديدة وساهمت في دمج الشباب في الحياة المدنية.

– و تجربة ميديلين في كولومبيا تحت عنوان “الثقافة بديلا للعنف”. لقد أطلقت الحكومة المحلية مشروع “التحول الثقافي الحضري”، فأنشأت مكتبات ضخمة في قلب الأحياء الفقيرة وربطتها بوسائل نقل حديدية (تلفريك)، مما جعل الثقافة متاحة للجميع، فتراجعت معدّلات الجريمة وتطورت نسبة التمدرس، وتحولت المدينة الى نموذج عالمي في التحول الثقافي.

– و لاننسى تجربة أخرى نموذجية غير بعيدة عنّا مدينة “ماتيرا” الإيطالية، لقد كانت من أفقر مناطق إيطاليا، وتوصف بأنها “العار الوطني”. فمن خلال مشاريع ثقافية وبمشاركة السكان المحليين في الفن، والمسرح، وتجديد المعمار، تحولت المدينة إلى مركز ثقافي وسياحي عالمي مع الحفاظ على طابعها الشعبي الفريد.

    الأحياء المخملية أيضا تحتاج إلى الثقافة

    إذا كانت الأحياء الشعبية تحتاج إلى الثقافة لتقاوم التهميش والعنف، فإن الأحياء المخملية تحتاجها لتقاوم الاغتراب، والاستهلاك المرضي، والانعزال الطبقي. في كثير من الأحيان تبدو الأحياء الراقية غارقة في وفرة مادية لا تترجم بالضرورة إلى وعي ثقافي أو تفاعل إنساني مع محيطها. فغياب الثقافة يُنتج نرجسية طبقية، وإحساسا زائفا بالاكتفاء الذاتي، يرسّخ القطيعة بين فئات المجتمع.

    الثقافة في هذه الأوساط لا يجب أن تُختزل في حضور المعارض الفنية الفخمة أو اقتناء الكتب النادرة، بل يجب أن تتحول إلى وعي نقدي بالفوارق، والى إحساس بالمسؤولية المجتمعية، والانخراط في قضايا الانسان وقيم المواطنة. لذلك من واجب الأحياء المخملية أن تنفتح على الثقافة بمعناها الأعمق، لا كتذوق جمالي فقط، بل كموقف فكري واخلاقي من العالم.

    الثقافة ليست ترفًا. إنها ضرورة، لكسر الحواجز بين المركز الثقافي والهامش الجغرافي والاجتماعي وفتح الطريق نحو مستقبل يتّسع للجميع.  لا تنمية بدون ثقافة. ولا أمن بدون أمل.

    * ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.

                                                                                                

    شارك رأيك

    Your email address will not be published.

    error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.