لا تزال الجرائم الإسرائيلية في غزة تفضح طبيعة النظام الصهيوني القائم على العنف والحقد. ولا يزال الصمود الفلسطيني يعكس إرادة حقيقية على المقاومة بالرغم من التدمير، والقتل، والحصار، والجوع. غزة من فلسطين وهي قضية تحرّر وطني لآخر شعب مستعمر في العالم، يناضل من أجل حقّه في تقرير المصير في وطن ودولة منذ ما يزيد عن ثلاثة أرباع القرن. أربع محطات يستوجب الوقوف عندها في هذا السياق: انتهاك القانون الدولي، وضعف الموقف العربي، والمراهنة على المقاومة ومواجهة المشروع الصهيوني.
العقيد محسن بن عيسى *

انتهاك للقانون الدولي
كشف العدوان على غزة هشاشة القانون الدولي الإنساني، بل وربما زَيفه. فرغم الكم الهائل من الانتهاكات لم يصدر أي قرار مُلزم لوقف المجازر، بفعل الحماية الأمريكية المتكررة عن طريق الفيتو لصالح إسرائيل داخل مجلس الأمن.
أمّا المحكمة الجنائية الدولية ولئن أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى بها سنة 2024 مذكرتي اعتقال بحق بنيامين نتنياهو (رئيس الوزراء)، ويوآف غالانت (وزير الدفاع)، لا زال هناك ترقّب في مزيد الضغط على الدول الأعضاء (وعددها 124) لاحترام الأوامر القضائية والامتثال لها، ومنع إفلات المطلوبين من العقاب.
لم تتوقف الأزمة عند حدود الشلل المؤسساتي، بل تجاوزتها إلى ازدواجية في المعايير الغربية: دول تدافع باستماته عن حقوق الإنسان في أوكرانيا، وأخرى تبرّر سحق الفلسطينيين في غزّة باستثناء تغير بعض المواقف في (إسبانيا-إيرلندا-النرويج)، فضلا عن إعلام يقلب الحقائق: الجلاد صار ضحية والضحية متّهمة بالإرهاب. والحال أنّ الجرائم الإسرائيلية مُكتملة، وأركان الجريمة مسجّلة بالصوت والصورة.
وللتذكير، فلقد أسهمت الدول الغربية في تأسيس عالم القانون الدولي نتيجة معاناتها لمآسي الحروب التي خاضتها في ما بينها خلال القرون الماضية، وترفض اليوم الالتزام بتلك القوانين في النزاع الفلسطيني الاسرائيلي، الأمر الذي آل إلى انتهاك القانون الدولي انتهاكًا فاضحًا. في غزّة، لم يسقط القانون الدولي وحده، بل سقطت العدالة كما أرادها العالم بعد الحرب العالمية الثانية. عدالة كونية غير خاضعة للقوة، بل للمبادئ. والسؤال المطروح: هل العدالة حكر على الأقوياء؟ أم حقّ لكل شعب يطالب بالحرية والكرامة؟
لقد أظهرت تجارب التاريخ الحديث أنّ الشعوب المستضعفة، استطاعت أن تحرّك ضمير العالم، وأن تفرض قضيّتها العادلة في وجه أنظمة الظلم والاحتلال. الصوت العادل أقوى من السلاح أحيانًا والتاريخ لا يخلّد إلا القضايا العادلة.
العالم العربي بين التنديد والشلل
في مواجهة مأساة غزة، اكتفى المشهد العربي -مع بعض الاستثناءات- بالتنديد اللفظي وبيانات الإدانة. بين حسابات ضيّقة، وخوف من التصعيد، وتبعيّة استراتيجية، غابت المبادرة وغاب الموقف الموحّد.
ورغم خروج الشعوب العربية في تظاهرات حاشدة تعبيرًا عن الغضب والتضامن، لم يُترجم هذا الغضب الشعبي إلى فعل دبلوماسي موحّد أو موقف سياسي ضاغط. لم تُفعَّل آليات الردّ الاقتصادي، لم تُستدعَ السفراء (حالة أو حالتين)، ولم تُجمّد الاتفاقيات، بل إنّ مسار التطبيع ظل قائما لدى بعض العواصم وكأنّ شيئًا لم يكن.
في غضون هذه المراوحة لم يعد النزاع “إسرائيليًا-فلسطينيًا-عربيًا- بل تجاذبات في المنطقة بين ” مُطبّعين” و” رافضين”. ويبدو أنّ هناك تباينًا واضحًا بين الشعوب العربية وحكوماتها، خلافًا لما كان عليه الأمر من قبل. ولعل المشهد العربي الأخير حول ما جرى في غزة يعكس هذا التباين الغريب.
الجامعة العربية كما في محطات سابقة، غابت أو حضرت كجهاز شكلي. القمم الطارئة كانت أقرب إلى جلسات تنفيس سياسي، لا تترتب عليها نتائج أو مواقف فعّاله. لقد تحوّلت المؤسسة التي تأسّست للدفاع عن القضايا العربية إلى كيان هشّ، محكوم بتوازنات تمويلية ومصالح متضاربة.
كانت تلك أسباب كافية للتأكيد على ضرورة إصلاح جامعة الدول العربية ليس كخيار، بل كضرورة حتمية لمواكبة التغيرات الإقليمية والدولية، واستعادة دورها كإطار موحّد للأمة العربية في مواجهة التحدّيات. من المحبط بعد ثمانية عقود من تأسيسها أن تغيب الإرادة السياسية المشتركة، فكل دولة عربية تتصرف وفق مصالحها الوطنية، لا وفق رؤية عربية موحّدة ما يجعل الجامعة مجرد منصّة بيانات.
ومهما يكن، فقد جرت عملية تجويف للمنطقة المحيطة بــ ” القضية العربية المركزية” شملت كل عناصر الحياة فيها، قبل الالتفاف على فلسطين. وهو تجويف تبادلت فيه إسرائيل والولايات المتحدة الأدوار والوظائف. لقد مرّت القضية بمحطات مفصلية – من نكسة 67، إلى اجتياح بيروت 82، إلى الانتفاضتين، إلى حرب غزة- شهدت كلّها سيناريو متكرّرًا: تنديد بلا فعل واستنكار دون خطوات حاسمة.
غزّة ذاكرة المقاومة الحيّة
لقد كان للصراع في التاريخ الإنساني دائما شكلا مأسويًّا، لكنه كان أحيانًا شكلا ًمطلوبًا لتمهيد الطريق أمام عمليات السلام. إنّ التاريخ ذاته يدلنا أنه ليس هناك ما يشير إلى التنازل في جبهة الأوهام عند إسرائيل. لذلك تبقى غزة القلب النابض للمقاومة الفلسطينية في مشهد يسيطر عليه خيار العنف المتصاعد الذي يستبعد كل الخيارات الأخرى. ما يتعرّض له القطاع ليس مجرد حرب، بل محاولة مَحو لا فقط للمكان، بل للمعنى. لكنه بما يحمله من رمزية، يقف كجدار منيع في وجه النسيان.
إنّ الجميع، ومن ضمنهم إسرائيل نفسها، يعترف ويقرّ صراحة أنّ غزّة صمدت جيلاً بعد جيل، وأعادت فكرة تعريف العدالة لا بوصفها امتيازًا تمنحه المؤسّسات الدولية، بل كحقّ يُنتزع بالصّمود والتّضحية. في كلّ بيتٍ مُهدّم، وفي كلّ شهيدٍ أو جريحٍ يُنتشل من تحت الأنقاض، شهادة حيّة أنّ المقاومة ليست خيارًا عسكريًا فقط، بل فعلَ وجود.
لهذا، لا يمكن إلاّ التأكيد على أنّ المقاومة رغم ثقل تكلفتها البشرية (أكثر من 58 ألف شهيد)، لن تثمر سياسيًا دون مشروع تحرّري وطني جامع. إنّ الملحمة الجارية تذكّرنا بالحاجة الملحّة إلى رؤية استراتيجية تلمّ الشمل الفلسطيني، وتُنهي الانقسام الداخلي، وتُحيي منظمة التحرير الفلسطينية كداعم للوحدة وممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. لا مقاومة بلا وحدة، ولا ذاكرة تصمد بلا حاضنة وطنية تعيد الاعتبار للمشروع التحرّري.
إسرائيل نظام أبرتهايد جديد
ما يجري في غزّة لا يمكن فهمه دون النظر إلى طبيعة النظام الإسرائيلي نفسه: نظام استعماري استيطاني عنصري، يعيد إنتاج ممارسات ” الأبرتهايد” الذي عرفه التاريخ في جنوب إفريقيا. هذا ليس تشبيهًا، بل توصيف مدعوم بمواثيق دولية (تقرير الأمم المتحدة 2017، منظمة العفو الدولية 2022)، والتي وصفت إسرائيل بوضوح بأنها “نظام فصل عنصري” يمارس سياسة التفوّق العرقي، ويميّز على أساس الهوية والدين والجغرافيا.
وفي الواقع، فهو نظام يقسم الأرض والشعب والحقوق، ويحوّل الفلسطيني إلى مواطن منقوص الحقوق، مجرّد من الأرض، وممنوع من الحياة الكريمة. غزّة المحاصرة، والضفّة المجزّأة، والقدس المقيّدة، ومخيمات اللاجئين، كلها تجلّيات لأبرتهايد معاصر يستند إلى منظومة قانونية وعسكرية واقتصادية تعمل على ترسيخ التمييز والإقصاء ومنع تقرير المصير.
لقد بُني المجتمع الإسرائيلي كمجتمع مستنفرٍ بصورة دائمة، عسكريًا وعدوانيًا، وهو في حالة انجذاب مرضية إلى مزيدٍ من الحروب والعدوان. وكما لم يصمد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا رغم جبروته، ونظام الاستعمار الفرنسي الاستيطاني في الجزائر وتونس وفيتنام رغم وحشيته، وغيرها من الأمثلة، فإنّ مصير النظام الصهيوني في شكله القائم اليوم -دون تجاهل سيناريوهات الحل السياسي المطروحة – هو الزوال. قد يكون الطريق لا يزال صعبا، لكن حركة التاريخ لا تهادن الظلم طويلا. فحيث يوجد احتلال توجد مقاومة، وحيث توجد عنصرية وانعدام عدالة، يُكتب فجر جديد… ولو من تحت الأنقاض.
وبعيدًا عن الخطاب السياسي والإعلامي، فإنّ سياسة الأمن الإسرائيلية تحتضر والوضع الأمني الذي تعيشه إسرائيل يعتبر إفلاسًا أمنيا. لقد سقط ما يُعرف في الفكر الإسرائيلي “الحائط الحديدي” المنيع في نظرهم، وحلّ محله “العجز الأمني”. مع ما تقدمّ، سيظهر السياق الجيوسياسي الأوسع في قادم الأيام توترًا بين المصالح الاقتصادية الأمريكية مع الخليج والضغوط لإنهاء الحرب، وستتزايد محاولات ترامب لتوظيف الأزمة لتعزيز مكانته كقائد عالمي، لكن تعقيدات الصراع وتباين المصالح تجعل النجاح مرهونا بتجاوز التناقضات في السياسة الأمريكية ذاتها.
سيُكتب الكثير عن هذه الحرب، لكن الحقيقة التي لا يمكن طمسها هي أنّ غزّة وقفت وحدها في وجه آلة الدمار، فصمدت، وقاومت، وكشفت زيف عالم يدّعي العدالة ولا يمارسها.
* ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك